للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[صور من مزاح السلف الصالح رضوان الله عليهم]

ومما ورد في مزاح أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ما رواه البخاري عن بكر بن عبد الله المزني قال: [كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمازحون حتى يتبادحون بالبطيخ، فإذا حزبهم أمر كانوا هم الرجال] وهذا حديث صحيح رواه البخاري في الأدب المفرد , وهذا ليس فيه إهدار للنعمة، أو أنه يؤذي، بمعنى: أنه يضربه بشيء ثقيل, فلو أنه حصل في بعض المناسبات أن رماه بقشرته -مثلاً- دون أن يؤذيه فلا بأس, لكن المقصود أنه كان في بعض المواقف يحصل شيء من هذا, قد يكون في الأسفار عندما يكون الجو فيه تعب, فيكون المزاح في السفر مما يقبل لأن في السفر شدة وعناء, والملاطفة والممازحة في السفر أوكد من الحضر, فيكون مقبولاً.

وسئل النخعي: هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم.

والإيمان في قلوبهم كالجبال الرواسي, والناس الآن قد يغرقون في الضحك، لكن ما عندهم إيمان لا مثل الجبال الرواسي ولا مثل القدور الرواسي.

وكذلك فإنه قد جاء في مزاح عدد من السلف آثار، فمن ذلك: ما رواه ابن أبي المليح، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب: [إني ليعجبني أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، فإذا أربد منه حاجة وجد رجلاً] أي: أنه يكون عنده تواضع لأهله، ولين ورفق, ولكن إذا كانت حاجة المرأة إلى رجل كان رجلاً, ونظر ابن الخطاب إلى أعرابي يصلي صلاة خفيفة، فلما قضاها، قال: اللهم زوجني بحور العين, قال عمر: أسأت النقد، وأعظمت الخطبة, خطبت الحور العين، وما هو المقابل؟ صلاة سريعة بلا طمأنينة.

وكذلك مما جاء عن عيينة بن حصن أنه شكا إلى نعيمان -ونعيمان كان فيه طرافة- صعوبة الصيام, فقال: صم الليل, فروي أن عيينه دخل على عثمان وهو يفطر في شهر رمضان, فقال: العشاء، فقال: أنا صائم, فقال عثمان: الصوم بالليل, فقال: هو أخف عليّ, فيقال: إن عثمان قال: هذه إحدى هنات نعيمان -وكبير السن الذي لا يستطيع أن يصوم يشرع له الإفطار ويطعم: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:١٨٤].

وقال علي بن أبي طالب: [لا بأس بالمفاكهة يخرج بها الرجل عن حد العبوس] أحياناً تكون هناك للمازحة مناسبات، وتكون مؤكدة ومقبولة، كأن يكون هناك رجل عابس أو مقطب, فالإنسان يمازحه ليذهب عنه تقطيبه أو عبوسه, وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دخل على النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام مهموم وفيه غم بسبب ما حصل مع زوجاته, قال عمر: [أردت أن أقول شيئاً أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم] فهو تقصد ذلك في هذه المناسبة.

وكذلك روي أن علياً رضي الله عنه جاءه رجل يشكو إليه، يقول: إني احتلمت على أمي -أي: إني رأيت أني أزني بأمي- فقال: أقيموه بالشمس واضربوا ظله حد الزنا, كأنه يقول: أنا مهموم، وحصلت لي مصيبة رأيت في المنام أني وقعت على أمي, ماذا أفعل؟ ما هو الحكم الآن؟ وعلي معروف في القضاء رضي الله عنه, قال: أقيموه في الشمس واجلدوا ظله.

وروى الأعمش عن أبي وائل أنه قال: مضيت مع صاحب لي نزور سلمان، فقدم إلينا خبز شعير وملحاً جريشاً, فقال صاحبي: لو كان في هذا الملح زعتر كان أطيب, فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد الله الذي قنعنا بما رزقنا, فقال سلمان: لو قنعت بما رزقت لم تكن مطهرتي مرهونة -أي: من أجل أن آتي لك بالزعتر رهنت مطهرتي، لأنه ليس عندي قيمة الزعتر- وأنت تتمنى الزعتر على صاحب البيت، فتسبب ذلك أن المطهرة مرهونة الآن من أجلك.

وكذلك جاء من الطرف عن الشعبي وكان الشعبي من العلماء الكبار، لكن كان مزاحاً- فمما جاء عن الشعبي أنه سئل عن المسح على اللحية؟ فقال: خللها بالأصابع، قال: أخاف ألا تبلها- بعض العلماء المفتين قد يمزح مع السائل مزحة لكن لها معنى ومغزى وليست فقط للضحك- قال: أخاف ألا تبلها -هذا تنطع- قال الشعبي: إن خفت، فانقعها من أول الليل!! وسأله آخر: هل يجوز للمحرم أن يحك بدنه؟ قال: نعم.

قال: مقدار كم؟ قال: حتى يبدو العظم! وروى الشعبي حديثاً (تسحروا ولو بأن يضع أحدكم أصبعه على التراب ثم يضعها في فيه) فقال رجل: أي الأصابع؟ فتناول الشعبي إبهام رجله، وقال: هذه! وقال رجل: ما اسم امرأة إبليس, قال الشعبي: ذاك نكاح ما شهدناه.

وروي أن خياطاً مرَّ بـ الشعبي وهو مع امرأةٍ في المسجد، فقال: أيكما الشعبي؟ هذا مغفل إلى هذه الدرجة لا يعرف الشعبي! فأشار إليه الشعبي: أن هذه! وكذلك من الذين كانوا معروفين بالمزاح الأعمش رحمه الله, قال ابن عياش: رأيت على الأعمش فروة مقلوبة صوفها من الخارج, فأصابنا مطر، فمررنا على كلب، فتنحى الأعمش وقال: لا يحسب أني شاة.

وقع بين الأعمش وامرأته وحشة، فسأل بعض أصحابه أن يصلح بينهما, فقال هذا الصاحب لزوجة ذاك محاولاً تلطيف ما بينهما, قال: هذا سيدنا وشيخنا أبو محمد فلا يزهدنك فيه عمش عينيه، وحموشة ساقيه، وضعف ركبتيه، وقزل رجليه، وجعل يصف!! فقال الأعمش: قم عنا فقد ذكرت لها من عيوبي ما لم تكن تعرفه.

وجاء رجل إلى أبي حنيفة، فقال له: إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل فإلى القبلة أتوجه أم إلى غيرها؟ فقال له: الأفضل أن يكون وجهك إلى جهة ثيابك لئلا تسرق! قال الربيع: دخلت على الشافعي وهو مريض، فقلت: قوِّى الله ضعفك؟ -فقصده واضح أي: أن يبدلك الله بدلاً من الضعف قوة, يعني: بدل المرض صحة- فقال الشافعي رحمه الله: لو قوى ضعفي قتلتني, لأن العبارة قد تفهم قوى الله ضعفك أي زاده وجعله مضاعفاً, قال قلت: والله ما أردت إلا الخير, قال: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير.

فقلت: ما أقول؟ أي: علمني عبارة بدل هذه العبارة، فلاطفه بهذه الملاطفة.

قال عثمان الصيدلاني: شهدت إبراهيم الحربي وقد أتاه حائكٌ في يوم عيد، فقال: يا أبا إسحاق! ما تقول في رجل صلّى صلاة العيد ولم يشترِ ناطفاً ما الذي يجب عليه؟ الناطف: نوع من الحلوى, يجعل من السكر ويدهن به الأشياء التي تصنع من العجين فانظر إلى سذاجة هذا الخياط.

فتبسم إبراهيم، ثم قال: يتصدق بدرهمين, فلما مضى قال: ما علينا أن نفرح المساكين من مال هذا الأحمق الذي يسأل مثل هذا السؤال! وهناك كثير من القصص التي وردت عن السلف في مسألة المزاح, وحسبنا منها ما ذكرنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>