للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مسألة الشفاعة والواسطة]

بالنسبة لمسألة الشفاعة والواسطة، أنه يطلب من شخص أن يتوسط له في مسألة من المسائل أو أمر من الأمور، بجاهه يقول: يا فلان! أنت تعرف المدير، أنت تعرف فلاناً، أنت تعرف الرئيس الفلاني، توسط لي عنده في إنهاء هذه القضية أو هذه الوظيفة ونحو ذلك، فهذه شفاعة، إذا كانت في أمرٍ مباح فهي جائزة، والشافع مأجور: (اشفعوا تؤجروا).

لكن ما حكم أخذ الهدية على الشفاعة؟

الجواب

الراجح أنه لا يجوز أخذ الهدية على الشفاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (من شفع لأخيه شفاعةً فأهدى له هديةً عليها فقبلها منه، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا) ولعل من الحكم من وراء هذا الأمر -وهو عدم جواز أخذ الهدية على الشفاعة والواسطة الحسنة- أن الجاه نعمة من الله ينبغي أن يُستخدم في خدمة عباد الله مجاناً بدون مقابل، وينبغي أن يتسارع إليه الناس المستطيعون، لنصرة حقٍ أو رفع ظُلم، ولا ينبغي لمن ساهم بجاهه في جلب حقٍ أو دفع ظلم أن يأخذ مالاً على ذلك، حتى لا يتكاسل الناس عن هذه المسألة، ويشترطون الأجر، فيقول أحدهم: لا أتوسط لك إلا بمقابل.

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: الهدية لمن يشفع له بشفاعة عند السلطان ونحوه لا يجوز أخذ الأجرة عليها.

وقال بعض الفقهاء: لا يجوز أخذ العوض مقابل الدفع عن المظلوم، وإنه يجب أن تُقضى له الحاجة مجاناً.

وقال ابن الجوزي: يجب على الولاة إيصال قصص المظلومين وأهل الحوائج، وقال: والواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة، وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها من تبليغه للسلطان حاجاتهم، وتعريفه بأمورهم، ودلالته على مصالحهم، وصرفه عن مفاسدهم، بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة.

إذاً: لا يجوز أخذ المقابل على هذه الشفاعة وخصوصاً إذا كانت لجلب حقٍ أو دفع ظُلم.

وقد أفتى ابن تيمية رحمه الله -في مسألة أخذ العوض أو الهدية على قضاء الحاجة- بعدم الجواز، وقال: هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار، ولما سئل ابن مسعود عن السحت قال: إنما السحت أن يستعينك على مظلمةٍ فيهدي لك.

فلا تقبل.

يقول: تعال ادفع عني هذه المظلمة فإذا أهدى لك هدية لا تقبل؛ لأنه سحت، لو قبلتها فهذا سحت.

وعن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها، فأهدى إليه صاحب المظلمة وصيفاً فرده ولم يقبله، وقال مسروق: سمعت ابن مسعود يقول: [من رد عن مسلمٍ مظلمة فأعطاه على ذلك قليلاً أو كثيراً فهو سحت، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نظن أن السحت إلا الرشوة في الحكم، قال: ذلك كفرٌ نعوذ بالله من ذلك] أي: أشد وأشنع، أي: الرشوة للقاضي أشد وأشنع ليحكم بغير الحق والصواب.

وجاء نصرانيٌ إلى الإمام الأوزاعي وكان يسكن بيروت فقال: إن والي بعلبك ظلمني وأريد أن تكتب فيَّ إليه، وأتاه بقلة عسل -هدية معه- فقال له: إن شئت رددت عليك قلتك وأكتب إليه؟ وإن شئت أخذتها ولا أكتب؟ -أنت بين أمرين إما أن تأخذ هديتك وأكتب لك , وإلا لا أكتب لك ولا أقبل هديتك- فقال النصراني: بل اكتب لي وارددها، فكتب له أن ضع عنه من خراجه، فشفّعه الوالي فيه، وحط له عن جزيته ثلاثين درهماً.

أي: كان قد أخذ أكثر من الجزية الشرعية.

فإذاً: لا ينبغي الاستعانة بالهدايا على قضاء الحوائج وتيسير المهام؛ حتى لا تتوقف الأمور على ذلك وتضيع المروءات والأخلاق بين الناس، ويكون التعامل بينهم على أساس مادي، فيضيع باب الاحتساب ويضعف الوازع الديني عند الناس.

وكذلك من الأشياء التي لا ينبغي قبول الهدية فيها مطلقاً: الهدية مقابل حفظ الأمانة، كأن يستودع أحد عندك أمانة ثم جاء فأخذها كاملة فأعطاك هدية فلا تأخذها منه، إلا بنية أن تكافئه عليها، حتى يبقى أجرك عند الله موفوراً، وحتى لا تصبح قضية حفظ الأمانات بين الناس مقابل هدايا ومكافآت، وينبغي أن يُسعى في قضاء الحوائج للناس ابتغاء الأجر من الله سبحانه تعالى، وينبغي أن يبذل المسلم جاهه بدون مقابل؛ لأن الجاه زكاة مثل المال.

ولذلك فإن الذي يُعطي شخصاً مالاً وهو مضطر، أعطاه إياه؛ لأنه ما عنده طريقة أخرى يصل بها إلى حقه أو يدفع الظلم عن نفسه، فيجوز له أن يدفعها؛ لأنه مضطر، لكن لا يجوز للآخر أن يأخذها، وإنما يستخدم جاهه في مساعدته، أما إذا كانت الهدية لإحقاق باطل، أو إبطال حق فلا شك أنها محرمة تحريماً عظيماً.

<<  <  ج: ص:  >  >>