للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إبراهيم عليه السلام وإكرامه لضيفه]

ومن إكرام الضيف نبدأ بإكرام الضيف بما جاء عن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم ما جاء في السنة وفي قصص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في كلام العلماء في كتب الأدب.

قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:٢٤ - ٢٧] ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعددة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله يقول: أولاً: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، وهذا من إكرام الله تعالى للملائكة على قول، والقول الثاني: إكرام إبراهيم لضيوفه ولا تنافي بين القولين كلاهما صحيح، فإذاً وصف الله ضيوف إبراهيم بأنهم مكرمين لأن إبراهيم أكرمهم وهم مكرمون.

ثانياً: قال تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:٢٥] فلم يذكر استئذانهم ففي هذا دليل على أنه عليه السلام كان معروفاً بإكرام الضيفان، فمنزله مطروق وبابه مفتوح ولا يحتاج إلى استئذان أحد فيدخلون مباشرة، بل إن استئذان الداخل هو دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم، فقد تقدم معنا في أدب الاستئذان أن الإنسان إذا فتح بابه للضيوف فدعاهم إلى وليمة أن فتح الباب هو إذن، فلا يحتاجون إلى طرق ولا استئذان مادام فتح الباب الخارجي وفتح المجلس معناها هذا هو الإذن، وكان إبراهيم عليه السلام بابه مفتوح دائماً وعنده مكان خاص للضيوف يدخلون إليه مباشرة من غير استئذان {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الحجر:٥٢].

ثالثاً: قوله: (سلامٌ) بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب {فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ)) [الذاريات:٢٥] والسلام بالرفع أكمل، لماذا؟ لأن قولهم (سلاماً) هي جملة فعلية أسلم سلاماً.

و (سلامٌ) جملة اسمية (سلامٌ) مبتدأ، ومعنى الدوام والثبوت والاستقرار في الجملة الاسمية أكثر من الجملة الفعلية؛ لأن الجملة الاسمية دالة على الثبات وعدم التجدد، والجملة الفعلية تدل على أن الشيء يذهب ويجيء، يزول ويرجع، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم فإن قوله سلامٌ أي: عليكم، دالٌ على الثبوت.

رابعاً: أنه حدث المبتدأ من قوله: (قومٌ منكرون) فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم عن مواجهتهم بذلك ولم يقل: إني أنكرتكم، لم يقل: أنتم قومٌ منكرون {قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:٢٥] وهذا الحذف ألطف في الكلام.

خامساً: أنه بني الفعل من مفعول فقال: (منكرون) ولم يقل: إني أنكركم من أنتم؟ ومنكر صيغة المبني للمفعول حذف فاعله؛ لأنه كره أن يقول: أنا أنكركم أنا لا أعرفكم فقال: أنتم غير معروفين.

فهناك فرق في أن يقول لهم مواجهة: إني لا أعرفكم، أنت لست بمعروف، هذا مبني والمبني للمفعول لا يعرف لكن أنت غير معروف، كره أن يقول لهم ذلك فهذا أبعد عن التنفير والمواجهة بالخشونة.

سادساً: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بالنزل وهي الكرامة، والروغان هو: الذهاب باختفاء، بحيث لا يشعر به الضيف وهذا من كرم رب المنزل -المضيف- أن يذهب باختفاء حتى لا يشق على الضيف ويستحي فلا يشعر الضيف إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه ويقول لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، فحفظ مشاعر الضيف من إكرامه، وعدم إحراجه أيضاً من إكرامه.

سابعاً: أن إبراهيم ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، وذلك معناه أنه كان بيته مستعداً للإكرام ولم يذهب إلى السوق ليشتري أو يذهب إلى الجيران ليستعير أو يذهب ويقترض وإنما كل شيء جاهز عنده في البيت، يعني مجهز البيت لخدمة الضيوف فهذا ما حصل، ثم مجيئه بسرعة {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ} [الذاريات:٢٦] ما قال: ثم جاء، لأن ثم تقتضي التراخي، والفاء للتعقيب، مباشرة {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ} [الذاريات:٢٦] وهذا يدل على أنه يوجد استعداد دائم ما عنده خبر أن هؤلاء سيأتون، دخلوا عليه وفاجئوه ومع ذلك كان مستعداً؛ لأن الإنسان إذا كان مستعداً لعمل الخير فأول ما تأتيه الفرصة يكون جاهزاً، أما الذي ليس بمستعد والمسألة ليست في باله وهو غير متهيئ لها، فإذا فوجئ بها تفوت الفرصة عليه.

أهل الجهاد في بدر خرجوا مباشرة مستعدين للجهاد، لكنها فاتت على من؟ على الذي كان يحتاج إلى استعداد، فطوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله يخرج على أول صيحة، وهذا هو المستعد دائماً.

فإذاً: الاستعداد لعمل الخير يكسب الإنسان فرصاً عظيمة، كمن يأتي لصلاة الجمعة مستعد دائماً للصدقات -مثلاً- في هذا اليوم الفضيل، بخلاف من تأتيه فرصة عظيمة ثم يبحث فلا يجد ويذهب ليقترض أو يذهب إلى البيت ويرجع وقد ذهبت الفرصة، فالمسألة هي قضية زيادة في الإيمان، مستوى الإيمان المرتفع بالاستعداد الدائم للخيرات، إبراهيم عليه السلام كان مستعداً باستمرار لعمل الخير {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:٢٦] من الذي جاء؟ هو وليس الخادم ولا السائق ولا صاحب المطعم، هو الذي جاء بالعجل بنفسه، وهذا أبلغ في الإكرام، أن يأتي الإنسان بالضيافة لضيفه بنفسه ولو كان عنده خدم، ولم يقل: فأمر لهم بعجلٍ سمين بل هو الذي ذهب وهذا أبلغ في إكرام الضيف.

ثامناً: أنه جاء بعجلٍ كامل ولم يأت ببعض منه، وهذا من تمام كرمه، فلم يأت بفخذ ولا بكتف ولا بظهر بل بعجل كامل، والعجل: البقر الصغير لحمه من أطيب اللحوم، وليس بقراً غليظاً.

تاسعاً: أنه سمين وليس بهزيل، ومعلوم أن ذلك من أفخر أمواله، يذبح العجل الصغير وهذا إكرام متناهي؛ لأن العجل الصغير عادة يتخذ للاعتناء والتربية ولكن آثر به ضيفانه وجاءهم بهذا الصغير ذا اللحم الطري لأجل إكرامهم.

عاشراً: أنه قربه بنفسه ولم يقل للخدم قربوه أنتم أو قرب المائدة يا غلام، وإنما قربه هو ولم يأمر خادمه بذلك.

الحادي عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة أن تجلس الضيف ثم تأتي له بالطعام إليه وتحمله إلى حضرته ولا تضع الطعام في ناحية ثم تأمر ضيفك أن يقترب إليه، طبعاً الآن في البيوت هذا قد يكون شبه متعسر؛ لأن الألوان كثيرة فسيأتي بهذا وبهذا ويضعونه ويجهزونه ثم يقول للضيوف: ادخلوا، لا حرج في ذلك وهو من الإكرام على أية حال وليس ضد الإكرام، لكن إذا جيء به وسيق به إليهم أفضل وأحسن افرض أن عندك ما لا يشق نقله فجئت به على عربة إليهم أو على طاولة تدرج بها إليهم، هذا أولى من أن تضعه وتقول: تعالوا أو انزلوا عندك.

الثاني عشر: أنه قال: ألا تأكلون؟! فاستخدم أسلوب العرض وهذا تلطف، وهو أحسن من أن يقول: كلوا مدوا أيديكم؟ مالكم لا تمدوا أيديكم؟ نحن أتينا به لمن؟ قال: ألا تأكلون؟ الثالث عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون ولم يكن ضيوفه يحتاجون إلى إذن؛ لأن مجرد تقديم الطعام للضيف هو إذن بأكله؛ وأنت قدمته لأي شيء؟ يتفرجوا عليه؟ فبمجرد التقديم أبحت لهم الأكل فإذاً لو قلت: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه) فيقول قائل: لم يأذن فيقال: إن مجرد التقديم عرفاً هو إذن بالأكل فحلال عليهم، طيب فلماذا قال إبراهيم: ألا تأكلون؟ لأنه لاحظ أنهم لا يأكلون، وفي الأصل قدمه إليهم تقديماً كاملاً مع الإذن ولا يحتاجون إلى كلمة تفضل، لكن لما رأى أنهم لا يأكلون قال: ألا تأكلون؟ ولهذا أوجس منهم خيفة وأحسها.

الرابع عشر: أنهم لما امتنعوا من الأكل من طعامه وخاف منهم لم يظهر لهم ذلك الخوف، أوجس منهم خيفة وأخفاه لكن الملائكة علمهم الله قالوا: لا تخف وبشروه بالغلام، فجمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، قال ابن القيم رحمه الله: وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً فصلى الله على إبراهيم.

ومن الآداب فتح الباب للضيف قبل وصوله قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:٧٣] فأبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدمٌ فتحها بدليل قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص:٥٠] مفتحة قبل وصولهم، وذلك لأن تقديم فتح الباب في الضيافة على وصول الضيف هو إكرام له، وتأخير باب العذاب على أهل جهنم من باب المفاجأة حتى يؤخذوا بأشد الأخذ وهو من زيادة العذاب، فلذلك إذا جاءوها فتحت أبوابها.

<<  <  ج: ص:  >  >>