الأمر الثاني: أن يحسن القضاء إلى صاحب الدين، عن أبي هريرة رضي الله عنه:(أن رجلاً تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أعرابياً جلفاً غليظاً في خطابه، فأغلظ له، فهم به أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً -صاحب الدين له صولة الطلب وقوة الحجة، ولكن مع مراعاة آداب الشرع- فقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه -لم يجدوا بعيراً مثل الذي استلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وكان عليه الصلاة والسلام قد استلف من هذا الرجل بعيراً- قال: اشتروه، فأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً) رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري قال:(جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا مع صاحب الحق كنتم!).
اليوم أيها الإخوة! لا يقف الكثيرون مع صاحب الحق، وأحياناً يكونون في موقع الحكم والقضاء، لا يقفون مع صاحب الحق، ويأخذون الرشاوى، حتى يحكموا لغير صاحب الحق، ويل لهم من نار جهنم يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام:(هلا مع صاحب الحق كنتم! ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا، حتى يأتينا تمرنا فنقضيك، فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله) وهذا يدل على جواز أن يقترض المدين قرضاً من دائن غير مستعجل حتى يوفي دائناً مستعجلاً، فقالت:(نعم بأبي أنت يا رسول الله، فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال الأعرابي لما رأى حسن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم: أوفيت أوفى الله لك) فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك خيار الناس، لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع) أي: لا خير في أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه بدون قلق ولا إزعاج، لأن الضعيف قد يأخذ حقه في بعض الحالات، لكن بعد أن يريق ماء وجهه، وبعد أن يسحب ويماطل، وبعد أن يقلق ويزعج، وعلى صاحب الدين أن يتوكل على الله في وفاء دينه وأن يسارع إليه حالاً، وهذه قصة عظيمة في هذا الأمر.
القصة في البخاري وغيره؛ يقول عليه الصلاة والسلام:(إن رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيداً! قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً! قال: صدقت -لما لمس صدق صاحبه قال: صدقت! كفى بالله شهيداً وكفى بالله كفيلاً- فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر ليتاجر بها، فقضى حاجته، وتاجر وربح، ثم ذهب يلتمس مركباً ليعود إلى صاحب الدين حتى يصل في الوقت المحدد، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها -حفرها وجوفها- فأدخل فيها ألف دينار وصحيفةً منه إلى صاحبه، يذكر فيها حاله وأنه لم يستطع أن يأتي وهذه حيلته، ثم زجج موضعها -أقفل على الخشبة- ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت من فلان ألف دينار، فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً! فرضي بك، وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً! فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أجد، وإني أستودعكها -والله عز وجل إذا استودع شيئاً حفظه- فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، وما اكتفى بإلقائها، وإنما جعل يلتمس مركباً، فخرج الرجل الذي كان أسلفه لعل مركباً قد جاء بماله، خرج في الوقت المحدد إلى الساحل، ينظر هل قدم مركب بالمال الذي أسلفه في الموعد المحدد، فما وجد مركباً، وإنما وجد الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، قال: آخذها لأهلي حطباً، فلما نشرها -وفي رواية معلقة: فنشرها أهله فتناثرت منها الدنانير والدراهم والصحيفة- فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بألف دينار أخرى، يظن أن تلك قد ضاعت، وقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي شيئاً؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشداً) وهكذا تكون عاقبة التوكل على الله، فإن الله يؤدي، والمهم أن تصدق النية، والمشكلة عند الكثيرين من أصحاب الديون أنهم لا يصدقون النية في الأداء، فلذلك لا يساعدهم الله ولا يعينهم في أداء الديون.
هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.