وقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم، فيجمعهم بعد فرقة، ويعزهم بعد ذلهم، وكانوا يستفتحون بذلك على العرب.
ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب الأميين غير اليهود، فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الكاملة للبشرية، بعدما ضلت وزاغت وكفرت بآيات الله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩)} [البقرة: ٨٩].
وإن اختيار الله لفرد أو جماعة أو أمة، لحمل هذه الأمانة الكبرى، وليكون مستودع نور الله، وموضع تلقي فيضه، إن ذلك لفضل عظيم لا يعدله فضل.
فضل عظيم يربي على كل ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته.
والله عزَّ وجلَّ يذكر المؤمنين باختيارهم لحمل هذه الأمانة: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)} [الجمعة: ٤].
فاليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله، فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل، فهم كما وصفهم الله بقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥)} [الجمعة: ٥].
فبنو إسرائيل حملوا التوراة، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة على أيدي الرسل، ثم لم يحملوها ولم يعملوا بها، ولم يعلِّموها.
فهم لم يقدروا هذه الأمانة، ولم يفقهوا حقيقتها، ولم يعملوا بها، ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام، وليس له منها إلا ثقلها، فهو ليس صاحبها، وليس شريكاً في الغاية منها.
والذين حملوا أمانة العقيدة من هذه الأمة ثم لم يحملوها، فهؤلاء كأولئك اليهود، وأولئك كلهم كالحمار يحمل أسفاراً.