ومنها أن إبقاء الشيطان لم يكن كرامة في حقه، فإنه لو مات لكان خيراً له، وأخف لعذابه، وأقل لشره، ولكنه لما غلظ ذنبه بالإصرار على المعصية، ومخاصمة من ينبغي التسليم لحكمه، وإضلال عباده، كانت عقوبة الذنب أعظم عقوبة، فأُبقي في الدنيا، وأُملي له؛ ليزداد إثماً على إثم ذلك الذنب، فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره، فيكون رأس أهل الشر في العقوبة كما كان رأسهم في الشر والكفر.
فكل عذاب ينزل بأهل النار يبدأ به فيه، ثم يسري منه إلى أتباعه عدلاً ظاهراً وحكمة بالغة.
ومنها أن الله سبحانه علم أن في ذرية آدم من لا يصلح لمساكنته في داره، ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والروث فأبقاه له، فكأنه قال له: هؤلاء أصحابك وأولياؤك فاجلس في انتظارهم، وكلما مر بك واحد منهم فشأنك به، فلو صلح لما مكنتك منه، فأنا ولي الصالحين وأنت ولي المجرمين: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)} [النحل: ٩٩،١٠٠].
وأما إماتة الأنبياء والمرسلين فلم يكن ذلك لهوانهم على الله، ولكن ليصلوا إلى محل كرامته، ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها، ومقاساة أعدائهم وأتباعهم.
وموت الأنبياء والرسل أصلح لهم وللأمة:
أما هم فلراحتهم من الدنيا، ولحوقهم بالرفيق الأعلى في أكمل لذة وسرور، لا سيما وقد خيرهم ربهم بين البقاء في الدنيا واللحاق به.
وأما الأمم فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة، بل أطاعوهم بعد مماتهم كما أطاعوهم في حياتهم، وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم، بل يعبدون الله