للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أظهر أنه لم يرها؛ لئلا يعرض صاحبها للوحشة، ويريحه من تحمل العذر أمامه، ومن أحوج عدوه إلى الشفاعة، ولم يخجل من قيامه بين يديه معتذراً، لم يكن له في الفتوة نصيب.

والتغافل عن الزلات: أكمل وأرفع من الكتمان مع الرؤية، وينسى أذية من ناله بأذى ليصفو قلبه له، ولا يستوحش منه من آذاه.

ومن مكارم الأخلاق نسيان إحسانك إلى من أحسنت إليه، حتى كأنه لم يصدر منك، وهذا النسيان أكمل من الأول.

الثانية: أن تكرم من يؤذيك، وتقرب من يقصيك، وتعتذر إلى من يجني عليك، وتعطي من حرمك سماحة لا كظماً، ومودة لا مصابرة، فتحسن إلى من أساء إليك، وتعامله بضد ما عاملك به، فتنقلب عداوته لك صداقة، وبغضه محبة، وأذاه إحساناً كما قال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)} [فصلت: ٣٤،٣٥].

ومن أراد فهم هذه الدرجة فلينظر إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الناس، يجدها هذه بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه، ثم للناس منها بحسب إيمانهم ومجاهدتهم.

ومن مكارم الأخلاق أن ينزل العبد نفسه مع الناس منزلة الجاني لا المجني عليه، والجاني خليق بالعذر، والله سلطه عليك بذنبك.

وإذا علمت أنك بدأت بالجناية، فانتقم الله منك على يده كنت في الحقيقة أولى بالاعتذار، وتفعل هذا كله عن سماحة نفس، وانشراح صدر، لا عن كظم وضيق ومصابرة، فإن هذا دليل على أن هذا ليس في خلقك، وإنما هو تكلف يوشك أن يزول إذا فقد سببه.

الدرجة الثالثة: أن يسير العبد إلى الله على قدم اليقين، وطريق البصيرة والمشاهدة، ولا يتعلق في سيره بدليل، فهو لا يفتقر إلى دليل على وجود

<<  <  ج: ص:  >  >>