أن غنى الرب سبحانه لذاته، لا لأمر أوجب غناه، والفقير بذاته محتاج على الدوام إلى الغني بذاته كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)} [فاطر: ١٥].
وفقر العالم كله إلى الله سبحانه وتعالى أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير إلى ربه في إيجاده .. وفي بقائه .. وفي حياته .. وفي إمداده .. وفي تدبيره.
فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته، ويستحيل أن يكون العبد إلا فقيراً، كما يستحيل أن يكون الرب إلا غنياً، فإن غناه من لوازم ذاته سبحانه وتعالى.
وفقر العباد إلى ربهم نوعان:
الأول: فقر إلى ربوبيته، وهو فقر المخلوقات بأسرها إلى خالقها، فهي مفتقرة إلى ربها في خلقها وبقائها وحفظها ونفعها وضرها ورزقها وتدبيرها.
الثاني: فقر إلى ألوهيته سبحانه، وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع، ولبه دوام الافتقار إلى الله في كل حال: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٦)} [العنكبوت: ٦].
والله عزَّ وجلَّ غني عن عباده، ومع ذلك فهو محسن إليهم، رحيم بهم مع كثرة معاصيهم، وهذا من كمال غناه وكرمه ورحمته، فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، بل رحمة منه وإحساناً إليه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)} ... [الذاريات: ٥٦ - ٥٨].
ومن قصد إلى الله تعالى، ثم رجع عند حوائجه إلى غير الله، ابتلاه الله سبحانه بالحاجة إلى الخلق، ثم ينزع الرحمة من قلوبهم عليه.
ومن شهد كل افتقاره إلى الله عزَّ وجلَّ، ورجع إليه بحسن العرفان أغناه ورزقه من حيث لا يحتسب، وأعطاه من حيث لا يرتقب كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣)} ... [الطلاق: ٢، ٣].