ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به في سفال ونقص وذلة، إلى أن قطعهم الله في الأرض أمماً، ومزقهم كل ممزق، وسلبهم عزهم وملكهم، فلم يقم لهم مُلك بعد ذلك، إلى أن بعث الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - فكفروا به وكذبوه وحاربوه وقاتلوه.
فأتم الله عليهم غضبه، ودمرهم غاية التدمير، وألزمهم ذلاً وصغاراً لا يُرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح بن مريم من السماء فيستأصل شأفتهم، ويطهر الأرض منهم، ومن عباد الصليب: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠)} ... [البقرة: ٩٠].
فالغضب الأول من الله بسبب كفرهم بالمسيح (، والغضب الثاني بسبب كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
ومن تلاعب الشيطان بهم أنهم يزعمون أن الأحبار والرهبان إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالاً، وإذا حرموه صار حراماً، وإن كان نص التوراة بخلافه.
وحجروا على الرب سبحانه أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم، كما تكبر إبليس أن يسجد لآدم، ورأى أن ذلك يغض منه، ثم رضي أن يكون قواداً لكل عاص وفاسق.
وكما أبى عباد الأصنام أن يكون المرسل إليهم بشراً، ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجراً.
وكما نزهت النصارى بطارقتهم وأساقفتهم عن الصاحبة والولد، ولم يتحاشوا أن ينسبوا إلى الله الصاحبة والولد، وهو سبحانه الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (٣)} ... [الجن: ٣].
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية أنهم إذا رأوا الأمر أو النهي شاقاً عليهم طلبوا التخلص منه بوجوه الحيل.
فإن أعيتهم الحيل قالوا: هذا كان علينا لمَّا كان الملك والرياسة.