فهو ساكن لا يُرى عليه آثار السفر، وقد قطع المراحل والمفاوز.
فالسائرون إلى الله قسمان:
سائر قد ركبته نفسه فهو حاملها، يعاقبها وتعاقبه، ويجرها وتهرب منه، ويخطو بها خطوة أمامه، فتجذبه خطوتين إلى ورائه، فهو معها في جهد، وهي معه كذلك .. فمتى يصل مثل هذا؟
وسائر قد ركب نفسه، وملك عنانها، فهو يسوقها كيف يشاء؟ وأين شاء؟ ومتى شاء؟.
لا تلتوي عليه ولا تنجذب، ولا تهرب منه، بل هي معه كالأسير الضعيف، في يد مالكه وآسره، فهي منقادة معه حيث قادها، تسير به وهو ساكن راكب على ظهرها .. فما أسرع وصول هذا، وشتان بين المسافِرَين، ومن شأن هؤلاء القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبيره تعالى واختياره.
بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلا يزاحم تدبيرهم تدبيره، ولا اختيارهم اختياره، لتيقنهم أنه الملك الحق، القاهر القابض على نواصي الخلق، المتولي تدبير أمر العالم كله، وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم في أفعاله، الذي لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة.
فلم يُدخلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفه أمور عباده، بِلَوْ كان كذا كان كذا، ولا بعسى ولعل، ولا بليت وأتمنى.
بل ربهم أعظم وأجل في قلوبهم من أن يعترضوا عليه أو يتسخطوا تدبيره، أو يتمنوا سواه، وهم أعلم به، وأعرف بأسمائه وصفاته من أن يتهموه في تدبيره، أو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله.
بل هذا العبد ناظر بعين قلبه إلى بارئ المخلوقات وفاطرها، ناظر إلى إتقان صنعه، مشاهد لحكمته فيه، وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر، وعوائدهم ومألوفاتهم.