حقيقة الدنيا، فاستوحشوا من فتنها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وارتفعت همتهم عن سفاسفها، وعرفوا الآخرة، فتعلقت قلوبهم بها، فلا تراهم إلا قوامين صوامين، ذاكرين شاكرين، مسبحين مستغفرين.
فما أعلى همتهم في التوبة والاستقامة، وما أقوى عزيمتهم في العبادة والإخبات، والذكر والدعاء.
وأما البحث عن الحق فما أكثر المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، وما فيه من أحكام، فَمَنَّ الله عليهم وأعطاهم ما سألوا، وحقق لهم ما أرادوا، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)} ... [العنكبوت: ٦٩].
وأما علو الهمة في الدعوة إلى الله، فمن أعظم ما يهتم به الداعية هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، والصبر على مشاق الدعوة، حتى تبلغ الغاية التي يريد الله أن تبلغها.
وقد كان الرسل الكرام على رأس قائمة عالي الهمة في هذا المجال، وكان أولو العزم منهم في الذؤابة .. بذلاً .. وصبراً .. وتضحية، وكان سيدنا محمد (في ذلك الغاية العظمى، والمثل الأعلى الذي ينبغي أن يحذو حذوه كل داعية إلى الله عزَّ وجل، إذ لم يكن همه هداية قومه أو العرب فحسب، بل العالم كافة، وخاطب ملوك العالم ورؤساءه ليدخلوا في دين الإسلام.
والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى رجال عالي الهمة، وقد ضرب رسول الله (المثل الأعلى في هذا المجال فلم يكن أحد في وقت القتال أقرب إلى العدو منه، وكان أصحابه رضي الله عنهم مثلاً في الشجاعة والإقدام اقتداء به.
فما أحوج المسلمين اليوم إلى هذه الروح الوثابة، والهمة العالية؛ لتجاهد ضد أعداء الله، وأعداء الدين الحق، وتطهر الأرض من دَنَس أعداء الله ورسوله ودينه، وتنشر الفضيلة والحق في العالم.