إن عيون الإنسانية كلها لا تستطيع أن ترى أو تحيط بما أعده الله لعباده الصالحين في الجنة من النعيم.
ثم قوة الأذن أقوى وأشمل من العين؛ لأن العين لا ترى إلا الظاهر، والأذن تسمع ما في الظاهر والباطن، وآذان البشرية كلها لا تستطيع أن تسمع وصف ما أعده الله من النعيم لأهل الجنة.
ثم قوة الخيال أقوى من كل قوة في الإنسانية، ففي ثانية واحدة يستطيع الإنسان أن يصل بتصوره وخياله إلى أقطار السموات والأرض، ثم يرجع بخياله.
فتلك الدار التي أعدها الله لعباده المؤمنين فوق ما نتصور، وأعظم مما نتخيل، وأكبر مما نتوقع.
فمن حيث المساكن يعطى أدنى مسلم في الجنة مثل هذه الدنيا عشر مرات، وموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
وإذا كان هذا نصيب أدنى إنسان في الجنة، فكم يكون نصيب أعلى إنسان في الجنة؟ وكم جنات الرسل؟ وكم جنات سيد الرسل؟ وكم جنات المجاهدين؟.
ومن حيث المساكن قصور فاخرة، وقصور معلقة، وخيام واسعة كثيرة، وللمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة واحدة طولها ستون ميلاً في السماء.
وطعام أهلها أشكال وألوان، فواكه مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفيها من كل فاكهة زوجان، فيها فاكهة ونخل ورمان، وجنات من أعناب ونخيل، قطوفها دانية: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)} [الحاقة: ٢٤].
فأين المشمرون لمثل هذا؟ .. وأين المسارعون إليه؟.
وأين المتسابقون للفوز به؟.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قال اللهُ تَعَالى: أعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ، وَلااُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ». فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:١٧]» متفق عليه (١).
وما أعظم نعيم المؤمنين برؤية ربهم يوم القيامة، والرؤية أمر وجودي لا يتعلق إلا بموجود، وما كان أكمل وجوداً كان أحق أن يُرى، فالباري سبحانه أحق أن يُرى من كل ما سواه؛ لأن وجوده أكمل من كل موجود سواه.
فإنْ تعذُّرَ الرؤية:
إما لخفاء المرئي .. وإما لآفة وضعف في الرائي.
والرب سبحانه أظهر من كل موجود، وإنما تعذرت رؤيته في الدنيا لضعف القوة الباصرة عن النظر إليه، وأما في دار البقاء فتكون قوة بصر المؤمنين في غاية القوة؛ لأنها دائمة فقويت على رؤيته والنظر إليه كما قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)} [القيامة: ٢٢، ٢٣].
وأعظم نعيم في الجنة رؤية المؤمنين لربهم، ورضاه عنهم.
والله جلَّ جلاله هو الأكبر، وهو الكبير المتعال، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، وأنه لعظمته سبحانه لا يُدْرك بحيث يحاط به، والإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية.
وهو سبحانه أعظم من أن تدركه الأبصار أو تحيط به: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)} [الأنعام: ١٠٣].
فالمؤمنون ينظرون إلى الله ويرونه، ولكن لا تحيط أبصارهم به لعظمته وكبريائه وجلاله، وبصره يحيط بهم لأنهم خلقه، وجميع المخلوقات كالذرة بالنسبة إليه، والله بكل شيء محيط.
وكما يَعْلَم الخلق ما عَلَّمهم الله، ولا يحيطون بشيء من علمه، ويرزقهم ولا يحيطون بشيء من رزقه، ويكلم ويسمع من شاء من خلقه، ولا يحيطون بكلامه ولا بسمعه.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣٢٤٤) واللفظ له، ومسلم برقم (٢٨٢٤).