ومن أعجب النعم عليه نعمة النسيان، فإنه لولا النسيان لما سلا أبداً، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزى عن مصيبة، ولا ارتفع عنه حزن، ولا بطل له حقد، ولا استمتع بشيء من الدنيا مع تذكر الآفات، ولا نام من تذكر المصائب والبليات.
فما أعظم نعمة الله على العبد في الحفظ والنسيان مع تضادهما: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣)} [النحل: ٥٣].
والله على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يفعل ما يشاء بقدرته وهو الصمد:
خلق آدم بلا أب ولا أم .. وخلق زوجه من أب بلا أم .. وخلق عيسى من أم بلا أب .. وخلقنا من أب وأم.
فخلق آدم من تراب، وخلق زوجه من أحد أضلاعه، وخلق عيسى من نفخة جبريل في درع مريم، وخلق البشر من اجتماع ماء الرجل والمرأة.
فسبحان من خلق من هذا الماء بشراً سوياً يقوم ويقعد .. ويأكل ويشرب .. ويفرح ويغضب .. ويصلي ويتعبد .. ويعدل ويظلم .. ويتكلم ويسكت .. ويرحم ويبطش.
وسبحان من جعل من نسله الذكر والأنثى .. والأسود والأبيض .. والطويل والقصير .. والمؤمن والكافر .. والعاقل والمجنون .. والعرب والعجم.
فهذا يولد .. وهذا يموت .. حتى يأكلوا أرزاقهم .. ويستكملوا آجالهم .. والله يوالي عليهم نعمه .. ويرسل إليهم رسله .. وهم يعملون بما يسر الله لهم .. ويغدون ويروحون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فما أعظم خلق هذه النفوس، وما أعجب ما فيها من الآيات والعبر والشواهد