فالله تبارك وتعالى عزيز حكيم، لما بنى للناس دار الدنيا، للسكن بها، والتمتع بخيراتها، وجعل ما فيها زينة للأبصار، وعظة للاعتبار، والاستدلال بها على وحدانيته، وجميل صنعه، بما يقتضي الإيمان به، وإخلاص العبادة له، والعمل بدينه وشرعه.
فلما انقضت مدة السكنى بها، واستوفى كل إنسان رزقه وأجله، وأثره وعمله، وحقت كلمة ربك على فنائها، أجلاهم ربك منها، وهدمت وخربت لانتقال الخلق منها، وبدلت بدار أخرى، أبقى منها وأدوم، ثم نقل الخلق إليها: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨)} [إبراهيم: ٤٨].
والعبد المسلم في الدنيا كالأجير، والأجير حال اشتغاله بالعمل لا تدفع الأجرة بكمالها إليه، لأنه إذا أخذها كاملة لا يجتهد في العمل، فإذا أكمل عمله كان له الحق في المطالبة بكامل أجرته.
وهكذا الإنسان يعبد ربه ويمتثل أوامر خالقه في الدنيا، فيسعده الله في الدنيا، ويوفيه كامل أجرته يوم القيامة بعد فراغه من جميع أعماله.
وإذا كان محل أخذ الأجرة الكاملة هو الدار الآخرة كان الاجتهاد في العمل أشد وأكمل.
والله عزَّ وجلَّ عزيز حكيم منزه عن الظلم والعبث، وله عبيد بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء، وهو رحيم عدل، فلا بد أن ينصف عباده المظلومين ممن ظلمهم.
وإذا لم يحصل هذا في هذه الدار فلا بد من دار أخرى، يظهر فيها العدل والإنصاف وهي الدار الآخرة التي فيها الحكم لله وحده: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧)} [غافر: ١٧].
والله سبحانه أمر بالطاعات، ورغب فيها بربط الثواب بفعلها، ونهى عن المعاصي والقبائح، وحذر منها بربط العقاب بفعلها.