للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَكَانَ ملكا شجاعاً حازماً مهيباً لشدَّة سطوته وفخامة مَعَ عزة النَّفس وعلو الهمة وَكَثْرَة الْحيَاء والعفة وطهارة الْفِيل عَن الْخَنَا وصيانة اللِّسَان من الْفُحْش فِي القَوْل والإعراض عَن الْهزْل والعبث بِالْكُلِّيَّةِ وَشدَّة الْوَقار وَلُزُوم الصمت حَتَّى أَنه كَانَ إِذا خرج من عِنْد حرمه إِلَى مماليكه أخذتهم الرعدة عِنْدَمَا يشاهدونه - خوفًا مِنْهُ - وَلَا يبْقى أحد مِنْهُم مَعَ أحد. وَكَانَ إِذا جلس مَعَ ندمائه كَانَ صامتاً لَا يستفزه الطَّرب وَلَا يَتَحَرَّك وجلساؤه كَأَنَّمَا على رُءُوسهم الطير. وَإِذا تكلم مَعَ أحد من خواصه كَانَ مَا يَقُوله كَلِمَات نزرة وَهُوَ فِي غَايَة الْوَقار وَتلك الْكَلِمَات لَا تكون إِلَّا فِي مُهِمّ عَظِيم من استشارة أَو تقدم بِأَمْر من الْأُمُور المهمة لَا يعدو حَدِيثه قطّ هَذَا النَّحْو وَلَا يَجْسُر أحد يتَكَلَّم بَين يَدَيْهِ إِلَّا جَوَابا. وَمَا عرف أبدا عَن أحد من خواصه أَن تكلم فِي مَجْلِسه ابْتِدَاء الْبَتَّةَ وَلَا أَنه جسر على شَفَاعَة وَلَا مشورة وَلَا ذكر نصيحة مَا لم يكن ذَلِك بابتداء من السُّلْطَان فَإِذا انْفَرد بِنَفسِهِ لَا يدنو مِنْهُ أحد. وَكَانَت الْقَصَص ترد إِلَيْهِ مَعَ الخدام فيوقع عَلَيْهَا وَيخرج بهَا الخدام إِلَى كَاتب الْإِنْشَاء وَلَا يسْتَقلّ أحد من أَرْبَاب الدولة بانفراد بِأَمْر بل يُرَاجع الْقَصَص مَعَ الخدام. وَمَعَ هَذِه الشهامة والمهابة لَا يرفع بَصَره إِلَى من يحادثه حَيَاء مِنْهُ وخفراً وَلم يسمع مِنْهُ قطّ فِي حق أحد من خدمه لَفْظَة فحش وَأكْثر مَا يَقُول إِذا شتم أحدا: متخلف وَلَا يزِيد على هَذِه الْكَلِمَة وَلَا عرف قطّ من النِّكَاح سوى زَوجته وجواريه. وَكَانَت الْبِلَاد فِي أَيَّامه آمِنَة مطمئنة والطرق سابلة إِلَّا أَنه كَانَ عَظِيم الْكبر زَائِد الترفع بلغ من كبره وترفعه أَن ابْنه الْملك المغيث عمر لما حَبسه الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل عِنْده لم يسْأَله فِيهِ وَلَا طلبه مِنْهُ حَتَّى مَاتَ فِي حَبسه. وَكَانَ يحب جمع المَال بِحَيْثُ أَنه عاقب عَلَيْهِ أم أَخِيه الْملك الْعَادِل إِلَى أَن أَخذ مِنْهَا مَالا عَظِيما وجواهر نفيسة. وَقيل السُّلْطَان الْملك الصَّالح أَيُّوب أَخَاهُ الْملك الْعَادِل وَمن حِين قَتله مَا انْتفع بِالْحَيَاةِ لَا تهنى بهَا: فَنزل بِهِ الْمَرَض وطرقه الفرنج وَقبض على جَمِيع أُمَرَاء الدولة وَأخذ أَمْوَالهم وذخائرهم. وَمَات فِي حبوسه مَا ينيف على خَمْسَة آلَاف نفس سوى من قتل غرق من الأشرفية فِي الْبَحْر وَلم يكن لَهُ مَعَ ذَلِك ميل إِلَى الْعلم وَلَا مطالعة الْكتب إِلَّا أَنه كَانَ يجْرِي على أهل الْعلم وَالصَّلَاح المعاليم والجرايات من غير أَن يخالطهم. لم يخالط غَيرهم. لمحبته فِي الْعُزْلَة ورغبته فِي الِانْفِرَاد وملازمته للصمت ومداومته على الْوَقار والسكون.

<<  <  ج: ص:  >  >>