للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العبد كان في الفرق الأول يشهد أكثر المخلوقات، فانتقل إلى الجمع، فيشهد وحدَه الربوبية الشاملة لكل شيء، ثم بعد هذا عليه أن يشهد الفرق الثاني، وهو الفرق بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، فيشهد أن لا إله إلا الله، فيفرِّق بينه وبين ما سواه، بأنه هو الإله الذي يستحقّ العبادة دون ما سواه، وأن عبادته بطاعة رسله، فيعبد الله بطاعة رسوله، فهذا فَرْق إلهيّ نبويّ شرعي، وبه بعث الله الرُّسُل وأنزل الكتب.

والفناء في هذا المقام: أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب.

وأمَّا الفناء في توحيد الربوبية؛ فذاك نقصٌ عن الشهود الواجب، وحَسْبُ صاحبه أن يكون معذورًا لغلبة الوارد عليه لا أن يكون مشكورًا، وهو كحال من غاب بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته؛ حتى فَنِيَ من لم يكن، وبقي من لم يزل. فهذا حالٌ عارض لبعض السالكين، ليس هو من لوازم السلوك، ولا هو غايةٌ للسالكين، بل هو حالٌ ناقص بِكَونِ العجز صاحَبَه عن الشهود المطابق للحقيقة.

فإن ذلك هو أن يشهد الأمرَ على ما هو عليه، فيشهد عبوديته المحضة، ويشهد ربوبيةَ ربّه، ويشهد ــ مع كونه لا يَعبد إلا إيَّاه، وأنه يعبده بما شرع لا يعبده بالبدع ــ أنه هو الذي جعله كذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فيحصل له من الشكر، وشهود المِنَّة، والبراءة من الحول والقوة، ما يُحقق مع