للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والمقصود هنا أنه لم يثبت بدليل يُعتَمَد عليه أن الله يعذِّب في الآخرة مَن لم يُذنب، ودلائل القرآن والسُّنة يدلان على نقيض هذا القول، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لكنَّ هذا مما عُلِم أنه لا يشاؤه بالأخبار الصادقة، وبموجِب حكمته، وبمقتضى أسمائه الحُسنى وصفاته العُلَى، كما أنه قد عُلِمَ أنه لا يُخْرِج أهلَ الجنة منها، بل خالدون فيها أبدًا، وأنها لا تفنى أبدًا.

وعُلِمَ أنه لا يُخَلِّد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، كما أخبرت بذلك النصوص (١). وهو سبحانه لو عَذَّب أهلَ سماواته وأرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، لكن قد عُلِم أنه لا يعذب المتقين، ولا يسويهم بالفجَّار المذنبين.

والأصلُ الجامعُ في هذا الباب: أنه لا يَدخُل الجنةَ إلا مؤمن، وكلُّ مؤمن فلابدَّ له من دخول الجنة، وأنَّ كلَّ كافر فلابد له من دخول النار، فمن آمن بالرسل فإنه لا بدّ له من الجنة، ومن كذَّب الرسل فلا بدّ له من العذاب.

ومَن لم يصدِّقهم ولم يكذِّبهم لكونه لم تبلغه الرسالة= لم يكن من هؤلاء ولا من هؤلاء، بل يُحال أمره على علم الله، وقد جاءت الآثار بأن هؤلاء يُرسل إليهم الرسل في الدار الآخرة (٢)، وحينئذٍ فينعَّم المؤمن ويُعاقَب


(١) انظر ما سبق قريبًا (ص ١٢٤).
(٢) قال المصنف في حكاية هذا القول وترجيحه وتقوية الأحاديث الواردة في الامتحان: «والأكثرون يقولون: لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون فيمتحنهم يوم القيامة ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا؛ فمن أطاع حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار. وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم، وقد روي به آثار متعددة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حِسان يُصَدِّق بعضها بعضًا، وهو الذي حكاه الأشعري في «المقالات»: (١/ ٣٤٩) عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه يذهب إليه. وعلى هذا القول تدل الأصول المعلومة بالكتاب والسنة كما قد بُسِط في غير هذا الموضع، وبُيِّن أن الله لا يعذب أحدًا حتى يبعث إليه رسولًا» اهـ. من «درء التعارض»: (٩/ ٦٤).