أرسلك، ما هو؟ عَرِّفنا به؟ فأجابه موسى جوابَ من يعرف أنه يعرفه، ويظهر إنكاره، ويقول: هو أعْرَف من أن يُعَرَّف، وأبيَنُ من أن يحتاج إلى إظهار، وهو معروف عندك.
كما لو جاء رجل برسالة من عند عمر بن الخطاب إلى بعض أعراب المدينة، فقال ذلك الأعرابي: ما هو هذا عمر؟ فقال له الرسول: هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي ولَّى عليكم فلانًا، وفعل بكم كذا وكذا، وذلك الأعرابيُّ يعلم ذلك لكن تجاهل. فهذه كانت حال فرعون مع موسى.
وأما مَن يقول: إنه سأله طالبًا لتعريفه الحقيقة بالجنس والفصل، وأنَّ موسى عَدَل عن ذلك إلى التعريف بالأفعال، فهذا كلامُ طائفةٍ من المتأخرين الغالطين، فإنَّ فرعون كان منكرًا لوجوده، وهو القائل:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص: ٣٨]، وقال:{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}[الشعراء: ٢٩]، والطالبُ لتعريف الحقيقة يكون مُقِرًّا بالوجود، على أن الجواب بذكر الماهية المركَّبة من الجنس والفصل قد تكلَّمنا عليها في غير هذا الموضع، وبيَّنا بعضَ ما وقع فيه من غلط المنطقيين (١).
فهؤلاء المتفلسفة ضلالهم في كمال النفس وسعادتها مركَّبٌ من أصلين: ظَنُّهم أن الكمال هو [م ٩٢] مجرَّد العلم، وظنهم أن ذلك العلم هو ما عندهم من العلم الإلهي الذي ليس فيه علم بالإله، بل هو من أعظم الجهل بالإله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
(١) انظر «الرد على المنطقيين»، و «الصفدية»: (١/ ٢٤٢)، و «درء التعارض»: (٣/ ٣٢١ وما بعدها)، و «الفتاوى»: (٢/ ٢٦٩)، (٩/ ٥٥).