للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهكذا الأنبياء نوعان: نبيٌّ مَلِك، وعبد رسول. ولهذا لما خُيِّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون نبيًّا مَلِكًا أو عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا.

فالعبد الرسول الذي لا يفعل إلا ما أحبَّه ربُّه من واجبٍ [م ٥٢] ومندوب فلا يُعطي إلا من أُمِرَ بإعطائه، ولا يمنع إلا من أُمِرَ بمنعه، كما في «صحيح البخاري» (١): «إنِّي والله لا أُعْطِي أحدًا ولا أمنع أحدًا وإنَّما أنا قاسمٌ أضعُ حيثُ أُمِرتُ»، فإنه لم يُرِد بذلك العطاء والمنع الذي يحصل بمجرَّد المشيئة والقَدَر، فإنَّ جميع المخلوقات لا يعطون ولا يمنعون إلا بمشيئة الله وقدره، فلا فضيلة في هذا للمؤمن على الكافر فكيف بالأنبياء؟! بل المراد العطاء والمنع الشرعي، أي: لا أعطي إلا مَن أُمِرتُ بإعطائه، ولا أمنع إلا مَن أُمِرتُ بمنعه، وهذه صفة العبد الرسول.

بخلاف النبي الملك، فإن الله قال لسليمان: {(٣٨) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ} [ص: ٣٩]. قال المفسرون: اعطِ من شئت، واحْرِم من شئت لا حساب عليك (٢). فهذا إذنٌ له أن يعطي ويمنع بحكم إرادته كما يُؤذَنُ للمالك أن يعطي ويمنع لمن يريد إذا لم يكن في ذلك فِعْل محرّم. لكنَّ الأول أعلى درجة، فإن إعطاءَه ومنعَه عبادة يتقرَّب بها إلى الله، وهذا عطاؤه ومنعه مباح له، يتنعم به ولا يُعاقَب عليه، وما يحصل به ثوابٌ أعظم مما لا يحصل


(١) رقم (٣١١٧) بنحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(٢) أخرج ابن جرير: (٢٠/ ٩٩ - ١٠٢) وعبد بن حميد ــ كما في «الدر المنثور»: (٥/ ٥٨٨) ــ نحوه عن الحسن ومجاهد وغيرهما.