للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فالأول: أن يفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه. وهذا حقيقة التوحيد الذي أرسل الله به الرسلَ وأنزل به الكتبَ، وهذا حال الأنبياء وأتباعهم. والفناء عن عبادة السِّوى يُقارنه البقاء بعبادته تعالى، فهذا الفناء يقارنه البقاء، وهو حقيقة قول: لا إله إلا الله.

وأما النوع الثاني: وهو الفناء عن شهود السِّوى ويسمى الاصطلام، ومنه الفناء في توحيد الربوبية، وهو أن يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، فيفنى بالمعروف عن المعرفة والعارف.

وهذه الحال ليست واجبة ولا مستحبة، وليست حال الأنبياء ولا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا أكابر المشايخ الصالحين، ولكن هو حالٌ يعْرِض لطائفةٍ من السالكين، كما يُذْكر عن أبي يزيد (١) - رحمه الله - وعن غيره أنه قال في هذا المشهد: «سبحاني» (٢)، أو «ما في الجبَّة إلا الله» (٣)!


(١) هو: طيفور بن عيسى بن سروشان أبو يزيد البسطامي ــ نسبة إلى بسطام بلدة بخراسان ــ من كبار الصوفية (ت ٢٦١). ترجمته في «طبقات الصوفية» (ص ٦٧ - ٧٤) للسلمي، و «الحلية»: (٩/ ٢٥٤ - ٢٨٠)، و «رسالة القشيري»: (١/ ٥٧ - ٥٨)، و «السير»: (١٣/ ٨٦).
(٢) ذكره عنه أبو طالب المكي في «قوت القلوب»: (٢/ ١٤٤)، والغزالي في «الإحياء»: (١/ ٤٨) وقال: لا يصح عنه، والمصنف في مواضع من كتبه بصيغة التمريض.
(٣) ذكره عنه المصنف في مواضع من «الفتاوى»: (٨/ ٣١٣)، (١٣/ ١٩٩)، و «المنهاج»: (٥/ ٣٥٧). وقد جمع عبد الرحمن بدوي كتابًا في شطحات الصوفية، وأورد فيه كثيرًا من كلمات البسطامي، وليست هذه منها، انظر هامش تحقيق «المنهاج». والذي عُرِف بهذه العبارة أبو منصور الحلاج المقتول على الزندقة سنة (٣٠٩)، انظر «وفيات الأعيان»: (٢/ ١٤٥).