للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ونظرًا لما أثارته هذه الآية ونظائرُها مِنْ خِلافٍ حولَ تفسيرها، أشار الطبريُّ إلى رأي المخالفين لأهلِ السنَّة من المعتزلة وغيرهم فقال: «والعَجَبُ مِمَّنْ أَنكرَ المعنى المفهومَ من كلامِ العربِ في تأويل قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: ٢٩] الذي هو بِمعنى العُلوِّ والارتفاعِ هَربًا عند نفسهِ مِنْ أَنْ يَلزمَهُ بزعمه - إذا تأَوَّله بِمعناه المفهوم كذلكَ - أَنْ يكونَ إِنَّما علا وارتفعَ بعدَ أَنْ كانَ تَحتها إِلى أَنْ تأَوَّله بالمَجهولِ مِنْ تأويلِه المُستَنْكَرِ ثُمَّ لم يَنْجُ مِمَّا هَرَبَ منه. فيقالُ له: زعمتَ أَنَّ تأويل قولهِ: {اسْتَوَى} [البقرة: ٢٩] أَقبلَ؟ أَفكانَ مُدبرًا عن السماءِ فأَقبلَ إِليها؟ ! فإنْ زعم أَنَّ ذلك ليس بإقبالِ فعلٍ، ولكنَّه إقبالُ تدْبِيْرٍ. قيلَ لهُ: فكذلكَ فقل: علا عليها عُلوَّ مُلْكٍ وسُلطانٍ، لا عُلوَّ انتقالٍ وزوالٍ. ثُمَّ لن يقولَ في شيءٍ من ذلك قولًا إِلا أُلْزِمَ في الآخرِ مثلهُ، ولولا أَنَّا كرِهنا إطالةَ الكتابِ بِما ليس مِنْ جِنسهِ لأَنبأَنا عن فسادِ قولِ كُلِّ قائلٍ قال في ذلك قولًا لقولِ أهلِ الحقِّ فيه مُخالفًا، وفيما بَينَّا منهُ ما يُشْرِفُ بذي الفَهْمِ على ما فيه له الكفايةُ إن شاء الله تعالى». (١)

وقال السَّمعاني وهو من أهل السنَّةِ عند تفسيره قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: ٥٤] (٢): «أَوَّلَ المُعتزلةُ الاستواءَ بالاستيلاءِ، وأنشدوا فيهِ:

قد استَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيفٍ أَو دَمٍ مُهْرَاقِ

وأَمَّا أهلُ السنَّةِ فَيتَبَرءونَ مِن هذا التأويلِ، ويقولون: إِنَّ الاستواءَ على العرشِ صِفةٌ لله تعالى، بلا كَيفٍ، والإيمانُ بِهِ واجبٌ، كذلكَ يُحكى عَن مالك بن أنسٍ وغَيرهِ من السَّلفِ أَنَّهم قالوا في هذه الآيةِ: الإيمانُ به واجبٌ، والسؤال عنه بدعة». (٣)

وقد أَصبحَ هذا الشاهدُ الشعريُّ الذي استدلَّ بهِ المُخالِفونَ للسَّلفِ


(١) تفسير الطبري (هجر) ١/ ٤٥٧.
(٢) الأعراف ٥٤.
(٣) تفسير السمعاني ٢/ ١٨٨.

<<  <   >  >>