للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عَصيتُ إليها القَلْبَ إِنِّي لأَمْرِها ... سَمِيعٌ، فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها (١)

يعني بذلك: فما أَدري أَرُشدٌ طِلابُها أَم غَيٌّ، فحذف ذكر «أَم غَيّ»؛ إذ كان فيما نَطقَ به الدلالة عليها، وكما قال ذو الرُّمَّةِ في نَعت حَميرٍ:

فلمَّا لَبِسْنَ الليلَ أو حِيْنَ نَصَّبَتْ ... لَهُ مِنْ خَذا آذانِها وهُو جَانِحُ (٢)

يعني: أو حِيْنَ أقبلَ الليلُ، في نظائر لذلك كثيرة، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: ١٧] لَمَّا كان فيهِ وفيما بَعدَهُ من قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: ١٧] دلالةٌ على المتروكِ كافيةٌ من ذكرهِ، اختصرَ الكلام طلبَ الإيجاز». (٣) وهذا مثال واضح على أثر الشاهد الشعري في التعرف على أساليب القرآن، والطبري أكثر المفسرين عنايةً بهذا.

ومن الأساليب التي تكلم عنها المفسرون في القرآن، واستشهدوا عليها بشعر العرب أسلوب الاستهزاء. ومن ذلك قول ابن عطية عند تفسير قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)} [الدخان: ٤٩] (٤) مبينًا هذا الأسلوب في الآية: «أَي: على قولِكَ، وهذا كما قال جريرُ:

أَلَمْ يَكُنْ في وُسومٍ قَد وَسَمْتُ بِها ... مَنْ خانَ مَوعظةً، يا زَهرةَ اليَمَنِ (٥)

يقولُها للشاعرِ الذي سَمَّى نفسَه به، وذلك في قوله:

أَبْلِغْ كُلَيبًا وأَبْلِغ عنكَ شاعِرَها ... أَنِّي الأَغَرُّ وأَنِّي زَهرةُ اليَمَنِ (٦)

فجاءَ بيتُ جرير على هذا الهُزءِ». (٧) فأسلوب الاستهزاء في الآية، كأسلوب الاستهزاء في الشاهد الشعري.


(١) انظر: ديوان الهذليين ١/ ٧١.
(٢) نَصَّبَتْ: رفعت آذانَها، خَذا آذانِها: استرخائها. انظر: ديوانه ٢/ ٨٩٧.
(٣) تفسير الطبري (شاكر) ١٢/ ٣٢٢.
(٤) الدخان ٤٩.
(٥) انظر: ديوانه ٢/ ٧٤٦.
(٦) انظر: الصاحبي ٢٩١.
(٧) المحرر الوجيز ١٤/ ٣٠٠.

<<  <   >  >>