فإن قال قائل: يُشكِل على هذا: أنَّ نوحًا عليه السلام قال لقَوْمه: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ}[نوح: ٤]، فكيف قال: إنَّهم إذا آمَنوا يَغفِر لهم من ذُنوبهم، ويُؤخِّرهم إلى أجَلٍ مُسمًّى. ثُمَّ قال:{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} كان من الأوَّل يَقول: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ} والثاني: يَقول: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ}؟
فالجَوابُ: يَعنِي: أُحذِّركم من العَذاب، فإنه إذا جاء لا يُؤخَّر، لكن إذا آمَنْتم أخَّرَكم إلى أجَلٍ مُسمًّى، وعلى هذا فلا تَناقُضَ في الآية.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: قال الله تبَارَكَ وَتَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ} إلى آخِره، في هذه الجُمْلةِ والتي بعدَها: دليلٌ على تَمويه فِرعونَ وغِشِّه وكذِبِه وضَلالِه؛ لأنه خَدَع قومَه، بقوله:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} وكذَب في قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} قَطْعًا، وكذَب في قوله:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} على أَحَد الاحتِمالَيْن.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ أهل الباطِل قد يَكون لدَيْهم زُخرُف من القَوْل غرور؛ لأَنَّ مثل هذا الزَّعيمِ الذي وصَلَت به الزَّعامة إلى أن جعَلوه رَبًّا إذا قال:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} سوف يَخدَع قومَه بلا شَكٍّ، وعلى هذا فيَجِب علينا الحَذَر من خِداع بعض الناس، إذا قالوا: نحن نُريد كذا، ونُريد كذا من الإِصْلاح، فيَجِب أن نَنظُر لأَفْعالهم، هل تَشهَد أفعالهُم لأقوالهم، إن كان الأَمْر كذلك فَهُم صدَقة برَرَة، وإن كانوا بالعَكْس فهم كذَبة غَشَشة، يَخدَعون بزُخْرف القول غُرورًا، ولهذا كان الإنسان الذي لدَيْه فِراسة، لا يَغتَرُّ بظاهِر الأقوال، وإنما يَقيس ما يَقوله، أو يَعتَبِر ما يَقوله بما يَفعَله، فإذا رأَى أن أَفعالَه تُخالِف أقواله عَلِم أنه كاذِبٌ غَشَّاش، وإذا رأَى أنَّ أَفْعاله تُصدِّق أقواله صار صادِقًا وصار مخُلِصًا لمُوافَقة باطِنه لظاهِره.