لم يُطلِق القول، بل قَيَّد فقال:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} وهذا كقَوْل الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا"(١) وحَديث النَّفْس لا يُمكِن أن يُقال: إنه حَديث. ولا أن يُقال: إنه قَوْل إلَّا بقَيْد؛ ولهذا لو حُذِفت {فِي أَنْفُسِهِمْ} وقيل: ويَقولون: لولا يُعذِّبنا الله. يُفهَم منه أنه كَلامُ اللِّسان. لكن هم بأَنفُسهم يُقدِّرون، يَقول الواحِد مِنهم:{لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} إِذَنْ ما نَقوله حَقٌّ؛ لأن الله لم يُعذِّبْنا، هذا يُقدِّره الإنسان في نَفْسه.
أمَّا الشِّعْرف "إن الكَلام لَفِي الفُؤاد" فهو قول الأَخطَل الشاعِر النَّصرانيِّ، قاله بعد تَغيُّر الألسُن، وعلى فَرْض أنه يُوافِق فإنه يَجِب أن يُحمَل على أن المَعنى أن الكلام المُعتَبر هو ما يُقدَّر أوَّلًا في الفُؤاد ثُم يَنطِق به اللِّسان؛ ولهذا لا يُعتَبر الكلام الذي يَسبِق على اللِّسان كَلامًا، ولا يُؤاخَذ به، فالكَلام الحَقيقيُّ الرَّصين المُعتَبر هو الذي يَكون أوَّلًا في القَلْب ثُم يُعبَّر عنه باللسان، هذا مَعنى البَيْت الذي لا يَحتَمِل غيرَه.
فإن قال قائِل: هل يَلزَم أن يَتكَلَّم بمُخاطَبة المَخلوق؟
فالجواب: لا، قد يَتكَلَّم بما يُثنِي به على نَفْسه، مثل أن يَقول: أنا الله الواحِد الأحَدُ، وما أَشبَه ذلك، كما يَقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يومَ القِيامة:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} لا يُجيب أحَد، فتقول:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر: ١٦].
ونَقول: الكَلام صِفة كَمال، والله تعالى مَوْصوف بالكَمال أزَلًا وأبَدًا، وإذا كان كذلك فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يَزَل مَوْصوفًا به، ولا يَلزَم من هذا أن يَكون هُناك
(١) أخرجه البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، رقم (٦٦٦٤)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، رقم (١٢٧)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.