للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إِذَنْ: ليسَت الطبائِع قُوَّة مُؤثِّرةً بنفسها، ولكن بما أَودعَ الله فيها من القُوى المُؤثِّرة، والأدِلَّة على تَأثير الأسباب أكثَرُ من أن تُحصَى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم: ٤٨] {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: ٥٧]، والأَعْمال الصالحِة سبَب للفَوْز، والأعمال السَّيِّئة سبَب للخُسْران وهكذا، فالأسباب ثابِتة شَرْعًا ولا شكَّ في الأمور الحِسِّيَّة والأمور الشرعية، فالآية التي معَنا: {فَأَخَذْتُهُمْ} تُفيد إثبات الأَسْباب وتَأثير ها، ولكن بأَمْر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: تَحريم المُجادَلة بالباطِل لإِدْحاض الحقِّ، لقوله: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: ٥].

ويَتفَرَّع على هذا: أن هذه العادةَ من عادات المُكذِّبين للرُّسُل، ومن المُجادَلة بالباطِل لإِدْحاض الحقِّ أن يُجادِل الإنسان للانتِصار لقوله، وهذا يَقَع كثيرًا في المُتفَقِّهة والمُتكلِّمة وغيرهم، يُجادِلون بالباطِل من أَجْل الانتِصار للقول، كما قال تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: ٦]، فمَن جادَل من أَجْل أن يَنصُر قوله لا أن يَنصُر الحقَّ ففيه شبَه من المُكذِّبين للرُّسُل الذين يُجادِلون بالباطِل ليُدحِضوا به الحقَّ.

ثُمَّ إن فيه - أي في الذي يُجادِل لنَصْر قوله فقط - أنه قد عرَّض نفسَه لأمر عظيم جِدًّا، وهو قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)} [الأنعام: ١١٠]، فإنَّ الإنسان إذا جادَل لنُصْرة قوله فإنه يَكون لم يُؤمِن به أوَّل مرَّة، وحينَئِذٍ يُبتَلى بهذه العاهةِ العَظيمةِ أن الله يُقلِّب فُؤادَه وبصَره حتى لا يُبصِر الْحَقَّ، ولا يَعِيَ الحقَّ ويَكتُم الحقَّ؛ لأنه لم يُؤمِن به أوَّلَ مرَّة.

والواجِب على المُؤمِن قَبول الحقِّ من أوَّل مرَّة، لا يَترَدَّد في قَبوله، كما كان

<<  <   >  >>