قوله:"اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرجُ كنزَ الكعبة إلا ذو السُّويقَتَيْنِ من الحبشة"، قيل: هو كنز مدفون تحت الكعبة، و (ذو السويقتين) هما تصغير السَّاق، والسَّاق مؤنث، فلذلك أدخل في تصغيرها التاء، وعَامةُ الحبشة في سوقهم خَمُوْشَةٌ ودِقَّةٌ.
قال الخطابي في "المعالم": اعلم أنَّ الجمعَ بين قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}[التوبة: ٣٦] وبينَ هذا الحديث: أن الآية مطلقةٌ، والحديثُ مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، ويجعل الحديث مخصصًا لعموم الآية، كما خُصَّ ذلك في حق المَجوس، فإنهم كفرة، ومع ذلك أخذ منهم الجزية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سُنُّوْا بهم سُنَّةَ أهل الكتاب".
بيانه: أنه إذا قام بعض المسلمين بقتال الكفار، فأبيح للباقين ترك القتال معهم بشرط أنهم كانوا في ديارهم، ولم يتعرضوا لهم في شيءٍ ما، ويدل على هذا المعنى قوله:"ما تركوكم".
فإن قيل: الصحابة - رضوان الله عليهم - هجموا على الفرس والروم، وقاتلوهم مبتدئين من غير أن يطؤوا ديار الإسلام، فما تخصيص تلك الجهتين - يعني: الحبشةَ والتُركَ - بالتَرْكِ؟
قلنا: أما الحبشة: فبلادُهم وَعِرَةٌ ذاتُ حرًّ عظيم، بين المسلمين وبينهم تهامة، وقفار وبحار، فلم يكلف المسلمين دخولَ ديارهم؛ لكثرة التعب، وعظم المشقة.
وأما الترك: فبأسهم شديدٌ، وبلادهم أيضًا بعيدة، وهم بأسرهم مقاتِلون، فطباعهم غليظةٌ لا تفقَهُ دقائقَ الإيمان، وبلادُهم باردةٌ لا تخلو صيفًا وشتاء من الثلوج، والعرب وهم جند الإسلام كانوا من البلاد الحارة، فلم يكلفهم دخول بلاد لم تكن من طباعهم، فلهذين الشيئين خصَّصهما.