عَبْدُ الْجَبَّارِ (يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ) كُلَّهَا أَرْوَاحَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ (بِإِذْنِ رَبِّهِ) قَالَ تَعَالَى {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: ١١] وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مَلَكِ الْمَوْتِ: «وَاَللَّهِ لَوْ أَرَدْت قَبْضَ رُوحِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْت عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْذَنُ بِقَبْضِهَا» ، فَإِنْ قِيلَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إسْنَادُ التَّوَفِّي إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: ٤٢] وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: ٦١] فَالْجَوَابُ أَنَّ إضَافَةَ التَّوَفِّي إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً وَإِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْقَبْضِ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْوَانُهُ يَأْخُذُونَ فِي جَذْبِهَا مِنْ الْبَدَنِ فَهُوَ قَابِضٌ وَهُمْ مُعَالِجُونَ.
(وَ)
ــ
[حاشية العدوي]
الْحُجَّةِ] عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
[قَوْلُهُ: وَقِيلَ عَبْدُ الْجَبَّارِ إلَخْ] لَا خِلَافَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ لِمَا قَالَهُ الْجُزُولِيُّ أَنَّ عِزْرَائِيلَ مَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ عَبْدُ الْجَبَّارِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: كُلَّهَا] أُتِيَ بِهِ دَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَلْ فِي الْأَرْوَاحِ لِلْجِنْسِ [قَوْلُهُ: أَرْوَاحُ الْإِنْس وَالْجِنِّ] أَيْ وَالشُّهَدَاءِ وَلَوْ شَهِيدَ بَحْرٍ، وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ رُوحٌ مِنْ الْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ وَلَوْ بَرَاغِيثَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ لَوْ أَرَدْت قَبْضَ رُوحِ بَعُوضَةٍ بَلْ يَقْبِضُ رُوحَ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: إنَّمَا يَقْبِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قِيلَ: إنَّهُ يَقْبِضُ رُوحَ شُهَدَاءِ الْبَحْرِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عج. وَذُكِرَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مَنْ قَرَأَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةِ فَرْضٍ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَكَذَا أَهْلُ الْجُوعِ فِي الدُّنْيَا، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا فَإِنْ قُلْت: إذَا مَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ كَيْفَ يَتَوَلَّى قَبْضَ الْجَمِيعِ قُلْت، ذَكَرُوا أَنَّ الدُّنْيَا بَيْنَ يَدَيْ مَلَكِ الْمَوْتِ كَالْقَصْعَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْآكِلِ وَرِجْلَاهُ فِي تُخُومِ الْأَرْضِ السُّفْلَى وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَوَجْهُهُ مُقَابِلُ اللَّوْحِ.
[قَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِ] أَيْ بِأَمْرِ رَبِّهِ. [قَوْلُهُ: بَعُوضَةٍ] فِي الْقَامُوسِ الْبَقَّةُ لَعَلَّ قَصْدَ مَلَكِ الْمَوْتِ مُطْلَقُ الْحَيَوَانِ الدَّقِيقِ الْجِسْمِ لَا خُصُوصَ الْبَقَّةِ، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ التَّخْصِيصِ وَهُنَاكَ مَا هُوَ مِثْلُهَا فِي الدِّقَّةِ كَالنَّمْلَةِ. [قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي يَأْذَنُ بِقَبْضِهَا] ظَاهِرُهُ أَنَّ كُلَّ رُوحٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا إذْنٌ جَدِيدٌ، وَرَأَيْت مَا يُقَوِّيهِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُقَالُ: إنَّ صَكًّا يَنْزِلُ عَلَى مَلَكِ الْمَوْتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِيهِ اسْمُ مَنْ أُمِرَ بِقَبْضِ رُوحِهِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُقْبَضُ فِيهِ، لَكِنْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ وَجْهِهِ مُقَابِلٌ اللَّوْحَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالنَّظَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَرَاغِ أَجَلِ الْعَبْدِ فَلَا يَحْتَاجُ لِإِذْنٍ جَدِيدٍ، فَإِنْ قُلْت: إنَّ اللَّوْحَ يَقَعُ فِيهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ فَيَظْهَرُ ثَمَرَةٌ لِلْإِذْنِ الْجَدِيدِ قُلْت: لَا ثَمَرَةَ حِينَئِذٍ لِلنَّظَرِ فِي اللَّوْحِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَعْتَمِدُ عَلَى مَا فِي اللَّوْحِ مَا لَمْ يَقَعْ تَغْيِيرٌ أَوْ يَنْزِلُ أَمْرٌ جَدِيدٌ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ الْجَدِيدُ عَامًّا بَلْ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَعْضِ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْفِعْلَ يُسْنَدُ حَقِيقَةً عَقْلِيَّةً لِمَنْ قَامَ بِهِ لَا لِمَنْ أَوْجَدَهُ كَقَامَ زَيْدٌ فَلَا يُقَالُ: قَامَ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُوجِدُ لِلْقِيَامِ، وَكَذَا التَّوَفِّي الَّذِي هُوَ قَبْضُ الرُّوحِ إنَّمَا قَامَ بِالْمَلَكِ إسْنَادُ التَّوَفِّي إلَيْهِ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَيَكُونُ إسْنَادُهُ لِلْمَوْلَى تَعَالَى غَيْرَ جَائِزٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ خَلَقَهُ، نَعَمْ إنْ تَجَوَّزَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ لِقِيَامِ قَرِينَةٍ عَلَى ذَلِكَ صَحَّ، فَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَهُوَ مُنَافٍ لِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْقَبْضِ] لَا يَخْفَى أَنَّ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ فَاعِلًا حَقِيقَةً مَعَ أَنَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْفِعْلِ بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْفَاعِلِ مَنْ أَوْجَدَ الْفِعْلَ وَخَلَقَهُ فَهُوَ اللَّهُ بِدُونِ رَيْبٍ إلَّا أَنَّ الْإِسْنَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ وَالْمَجَازِيَّةَ لَيْسَتْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ الَّتِي الْإِسْنَادَاتُ بِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَلَا يَكُونُ الْمَوْلَى فَاعِلًا حَقِيقَةً فَلَا يُتَخَلَّصُ إلَّا بِجَعْلِ الْمُتَوَفَّى مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ، أَعْنِي الْإِيجَادَ وَالْمُبَاشَرَةَ وَالْجَذْبَ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ اتَّضَحَ الْحَالُ. [قَوْلُهُ: لِأَنَّهُمْ أَعْوَانُهُ] أَيْ فَيَكُونُ إسْنَادُ التَّوَفِّي إلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، أَوْ اسْتَعْمَلَ تَوَفَّتْهُ فِي تَسَبَّبَتْ فِي وَفَاتِهِ فَيَكُونُ مَجَازًا لُغَوِيًّا، وَلَمْ يُبَيِّنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute