{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: ٧٧] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ» (وَ) إذَا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ لَا تُكَفِّرُ الْيَمِينَ فَ (لِيَتُبْ مِنْ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ عِتْقٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرُ الْكَفَّارَةِ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ لَهُ، وَمَا هِيَ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ.
(وَالْكَفَّارَةُ) فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَتَنَوَّعُ إلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: ثَلَاثَةٌ عَلَى التَّخْيِيرِ وَهِيَ الْإِطْعَامُ وَالْكِسْوَةُ وَالْعِتْقُ، وَوَاحِدٌ مُرَتَّبٌ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ الصَّوْمُ، وَأَفْضَلُهَا الْإِطْعَامُ وَلِذَا بَدَأَ بِهِ فَقَالَ. (إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ مُدًّا لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أُخِذَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْإِطْعَامَ لَهُ شُرُوطٌ خَمْسَةٌ الْعَدَدُ مُعْتَبَرٌ مِنْ قَوْلِهِ عَشَرَةِ، فَلَا يُجْزِئُ إعْطَاؤُهُ لِأَكْثَرَ وَلَا لِأَقَلَّ وَلَا لِوَاحِدٍ مِرَارًا فَإِذَا أَعْطَى خَمْسَةً مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ بَنَى عَلَى خَمْسَةٍ، وَإِنْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ نِصْفَ مُدٍّ نِصْفَ مُدٍّ لَمْ يُجْزِهِ. ثَانِيهَا أَنْ يَكُونُوا مَسَاكِينَ احْتِرَازًا مِمَّا لَوْ دَفَعَهَا إلَى أَغْنِيَاءٍ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ احْتِرَازًا مِمَّا لَوْ دَفَعَهَا لِفُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ
ــ
[حاشية العدوي]
قَوْلُهُ: الْكَفَّارَةُ] أَيْ فَلَا كَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ إنْ تَعَلَّقَتْ بِمَاضٍ، وَأَمَّا إنْ تَعَلَّقَتْ بِالْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ كُفِّرَتْ، وَاللَّغْوُ كَذَلِكَ إنْ تَعَلَّقَتْ بِمُسْتَقْبَلٍ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَاضٍ أَوْ حَالٍ لَمْ تُكَفَّرْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْغَمُوسَ وَاللَّغْوَ لَا كَفَّارَةَ فِيهِمَا إنْ تَعَلَّقَتَا بِمَاضٍ اتِّفَاقًا، وَفِيهِمَا الْكَفَّارَةُ إنْ تَعَلَّقَتَا بِمُسْتَقْبَلٍ اتِّفَاقًا فَإِنْ تَعَلَّقَتَا بِحَالٍ كُفِّرَتْ الْغَمُوسُ دُونَ اللَّغْوِ قَالَ عج:
كَفِّرْ غَمُوسًا بِلَا مَاضٍ تَكُونُ كَذَا ... لَغْوٌ بِمُسْتَقْبَلٍ لَا غَيْرُ فَامْتَثِلَا
[قَوْلُهُ: يَشْتَرُونَ] أَيْ يَسْتَبْدِلُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَيْ بِمَا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الْمُصَدِّقِ لِمَا مَعَهُمْ، وَأَيْمَانُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ وَاَللَّهِ لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَنَنْصُرَنَّهُ ثَمَنًا قَلِيلًا مَتَاعَ الدُّنْيَا لَا خَلَاقَ وَلَا نَصِيبَ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ نَظْرَةَ رَحْمَةٍ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، أَيْ يُثْنِي عَلَيْهِمْ فَالشَّاهِدُ فِي قَوْلِهِ، وَأَيْمَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَيْمَانُ فِي الْآيَةِ مُتَعَلِّقُهَا خَاصٌّ. [قَوْلُهُ: مَنْ اقْتَطَعَ] أَيْ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ مُتَمَلِّكًا. [قَوْلُهُ: حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ] مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، لِذَلِكَ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ يُحْرَمُ الدُّخُولَ مَعَ الْفَائِزِينَ أَوَّلًا قَالَهُ الشَّارِحُ فِي شَرْحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. [قَوْلُهُ: وَيَتَقَرَّبُ] أَيْ نَدْبًا [قَوْلُهُ: وَصَدَقَةٍ] أَيْ وَصَدَقَةٍ أَوْ صِيَامٍ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ بَأْسٌ.
[الْكَفَّارَة فِي الْيَمِين]
[قَوْلُهُ: مُدًّا] لِكُلِّ مِسْكِينٍ أَيْ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ رَطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ وَمِقْدَارُهُ بِالْكَيْلِ حَفْنَتَانِ بِكَفَّيْ الرَّجُلِ الْمُتَوَسِّطِ، وَيُعْطِي مِنْهَا صَاحِبَ دَارٍ وَخَادِمٍ لَا فَضْلَ لَهُ عَنْ ثَمَنِهِمَا كَالزَّكَاةِ وَاسْتَظْهَرَ كَوْنُ الْكَفَّارَةِ وَاجِبَةً عَلَى الْفَوْرِ. [قَوْلُهُ: بَنَى عَلَى خَمْسَةٍ] وَكَمَّلَ لِخَمْسَةٍ أُخْرَى وَلَهُ نَزْعُ الزَّائِدِ، بِشَرْطِ إنْ يَبْقَى بِيَدِ الْمِسْكَيْنِ لَمْ يُتْلِفْهُ، وَكَانَ وَقْتُ الدَّفْعِ لَهُ بَيَّنَ أَنَّهَا كَفَّارَةٌ [قَوْلُهُ: لَمْ يُجْزِهِ] أَيْ إلَّا أَنْ يُكَمِّلَ الْقَدْرَ، وَمَحِلُّ إجْزَاءِ التَّكْمِيلِ إنْ بَقِيَ بِيَدِ كُلِّ مِسْكِينٍ مَا أَخَذَ لِيُكَمِّلَ لَهُ بَقِيَّةَ الْمُدِّ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَعَلَيْهِ فَلَا يُجْزِئُ تَفْرِقَةُ الْمُدِّ فِي أَوْقَاتٍ أَوْ يُجْزِئُ التَّكْمِيلُ، وَلَوْ بَعْدَ ذَهَابِ مَا أَخَذَ أَوَّلًا مِنْ يَدِهِ، قَوْلَانِ وَلَهُ نَزْعُ الزَّائِدِ عَلَى الْعَشَرَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى بِيَدِ الْمِسْكِينِ لَمْ يُتْلِفْهُ وَكَانَ وَقْتُ الدَّفْعِ لَهُ بَيَّنَ أَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَلَكِنْ يَنْزِعُ فِي هَذِهِ بِالْقُرْعَةِ لَا بِالتَّخْيِيرِ، إذْ لَيْسَ بَعْضُهُمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَمَحِلُّ دُخُولِ الْقُرْعَةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ الْآخِذَ بَعْدَ الْعَشَرَةِ، وَإِلَّا تَعَيَّنَ الْأَخْذُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ.
[قَوْلُهُ: مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ] أَيْ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ وَكَانَتْ بَاقِيَةً بِأَيْدِيهِمْ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا مِنْهُمْ وَيُعْطِيهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ بِأَيْدِيهِمْ لَمْ يَضْمَنُوهَا إلَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَغَرُّوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا، وَأَكَلُوهَا وَصَانُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ فَيَضْمَنُوهَا أَيْضًا. كَمَا فِي الذَّخِيرَةِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ إذَا فَاتَتْ وَلَمْ يَعْلَمُوا وَهُوَ الْأَحْسَنُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِإِجْزَائِهَا إذَا فَاتَتْ فَيَغْرَمُونَهَا لِلْمَسَاكِينِ.
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَعَدَمُ الْإِجْزَاءِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ أَحْسَنُ قَالَهُ عج: ثُمَّ قَالَ تَنْبِيهٌ: يُؤْخَذُ مِنْ