للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ الِانْصِرَافِ فَقِيلَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا فَرَغَ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ بَعْدَهَا وَقِيلَ لِئَلَّا يُخَالِطَهُ الرِّيَاءُ وَالْعُجْبُ، الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا أَوْلَى فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَثْبُتُ بَعْدَ سَلَامِهِ قَلِيلًا لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكَتْ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ انْصِرَافِ الْإِمَامِ بَعْدَ سَلَامِهِ مَسْأَلَةً فَقَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّهِ) وَهُوَ دَارُهُ فِي الْحَضَرِ وَرَحْلُهُ فِي السَّفَرِ (فَذَلِكَ) يَعْنِي الْجُلُوسَ بَعْدَ سَلَامِهِ (وَاسِعٌ) أَيْ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ مِمَّا يَخَافُ مِنْهُ. فَائِدَةٌ:

الْقَرَافِيُّ كَرِهَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ الدُّعَاءَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ، فَيَجْتَمِعُ لِهَذَا الْإِمَامِ التَّقْدِيمُ وَشَرَفُ كَوْنِهِ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِمْ عَلَى يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ، فَيُوشِكُ أَنْ تَعْظُمَ نَفْسُهُ وَيَفْسُدَ قَلْبُهُ وَيَعْصِي رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُطِيعُهُ، رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَدْعُوَ لِقَوْمِهِ بِدَعَوَاتٍ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا لِأَنِّي أَخْشَى عَلَيْك أَنْ تَشْمَخَ نَفْسُكَ حَتَّى تَصِلَ الثُّرَيَّا، وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى لِكُلٍّ مَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلدُّعَاءِ لِغَيْرِهِ اهـ. هَذَا آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى الرُّبْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الرِّسَالَةِ.

ــ

[حاشية العدوي]

قَوْلُهُ: فَقِيلَ لِأَنَّ إلَخْ] وَقِيلَ إنَّ الْعِلَّةَ التَّلْبِيسُ عَلَى الدَّاخِلِ. [قَوْلُهُ: وَقِيلَ لِئَلَّا إلَخْ] فِي كَلَامِ بَعْضٍ مَا يُفِيدُ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي الِانْصِرَافَ جُمْلَةً كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُمَا كَانَا إذَا سَلَّمَا يَنْهَضَانِ مِنْ الْمِحْرَابِ نَهْضَةَ الْبَعِيرِ الْهَائِجِ مِنْ عِقَالِهِ.

[قَوْلُهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا أَوْلَى فِي تَعْلِيلِ النَّهْي] وَجْهُ الظُّهُورِ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْأَوَّلَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. [قَوْلُهُ: أَنْتَ السَّلَامُ] أَيْ الْمُخْتَصُّ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ لَا غَيْرَك، وَقَوْلُهُ وَمِنْك السَّلَامُ، أَيْ أَنَّ غَيْرَك فِي مَعْرَضِ النُّقْصَانِ وَالْخَوْفِ مُفْتَقِرٌ إلَى جَنَابِك بِأَنْ تُؤَمِّنَهُ وَلَا مَلَاذَ لَهُ غَيْرَك فَدَلَّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَإِ، وَقَوْلُهُ تَبَارَكْت تَعَظَّمْت وَتَمَجَّدْت أَوْ جِئْت بِالْبَرَكَةِ وَقَوْلُهُ يَا ذَا الْجَلَالِ أَيْ يَا ذَا الْعَظَمَةِ. [قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّهِ] أَيْ أَوْ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ وَكَذَا مَحَلُّ غَيْرِهِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَحَلِّهِ. [قَوْلُهُ أَيْ جَائِزٌ] أَيْ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ. [قَوْلُهُ: وَالْجَمَاعَاتُ] أَيْ وَأَنْ يَكُونُوا فِي مَسْجِدٍ.

[قَوْلُهُ: جَهْرًا] أَيْ وَأَمَّا سِرًّا فَأَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عِيَاضٌ وَعَلَى الْإِمَامِ عَشْرُ وَظَائِفَ مُرَاعَاةُ الْوَقْتِ إلَى أَنْ قَالَ وَالِاجْتِهَادُ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ فَيَجْتَمِعُ إلَخْ آتٍ فِي الدُّعَاءِ سِرًّا وَجَهْرًا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الِاجْتِمَاعَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ مِنْ عِظَمِ النَّفْسِ إلَخْ أَظْهَرَ فِي الْجَهْرِ وَيَجْرِي مِثْلُ هَذَا فِيمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ. [قَوْلُهُ: فَيُوشِكُ] أَيْ يَقْرَبُ. [قَوْلُهُ: تَعَظُّمُ نَفْسِهِ إلَخْ] قَصَدَ الْإِيضَاحَ إذْ عِظَمُ النَّفْسِ فَسَادٌ لِلْقَلْبِ وَمَعْصِيَةُ الرَّبِّ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تُنَازِعُ فِيهِ الْعَوَامِلُ الْمَذْكُورَةُ. [قَوْلُهُ: مِمَّا يُعْطِيه] أَيْ مِنْ إطَاعَتِهِ أَيْ الرَّبِّ فَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. [قَوْلُهُ: أَنْ تَشْمَخَ] أَيْ تَرْتَفِعَ إلَخْ وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْكِبْرِ. [قَوْلُهُ: وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى إلَخْ] قَالَ ابْنُ نَاجِي قُلْت وَقَدْ اسْتَقَرَّ الْعَمَلُ عَلَى جَوَازِهِ عِنْدَنَا بِإِفْرِيقِيَةَ وَكَانَ بَعْضُ مَنْ لَقِيته يَنْصُرُهُ بِأَنَّ الدُّعَاءَ وَرَدَ الْحَثُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: ٦٠] وَقَالَ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: ٧٧] اهـ.

وَعِبَارَةُ مَيَّارَةٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عِبَارَةَ الشَّارِحِ نَصُّهَا وَحَاصِلُ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ الْإِمَامُ ابْنُ عَرَفَةَ وَالْغُبْرِينِيُّ أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى نِيَّةِ أَنَّهُ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ أَوْ فَضَائِلِهَا فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ أَصْلِ الدُّعَاءِ وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَضْلُهَا مِنْ الشَّرِيعَةِ مَعْلُومٌ عِظَمُهُ اهـ الْمُرَادُ مِنْهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>