والبشر أعجز من أن يرزقوا أنفسهم شيئاً، وقد وهبهم الله الحياة، وكفل لهم أسبابها الأولية، ولو منع الله رزقه عن الكافر والفاسق ما استطاعوا أن يرزقوا أنفسهم، ولماتوا جوعاً وعطشاً وعرياً، وعجزاً عن أسباب الحياة الأولى، ولما تحققت الحكمة من إحيائهم وإعطائهم الفرصة ليعملوا في الحياة الدنيا ما يحسب لهم في الآخرة أو عليهم.
ومن ثم أخرج سبحانه الرزق من دائرة الصلاح والطلاح، والإيمان والكفر، وعلقه بأسبابه الموصولة بأوضاع الحياة العامة، واستعداد الأفراد، وجعله فتنةً وابتلاءً يجزي عليهما الناس يوم الجزاء.
ثم جعل سبحانه الدنيا حرثاً والآخرة حرثاً يختار المرء منهما ما يشاء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)} [الشورى: ٢٠].
فمن كان يريد حرث الآخرة عمل فيه، وزاد الله له في حرثه، وبارك له في عمله، وكان له مع حرث الآخرة رزقه المكتوب له في هذه الأرض لا يحرم منه شيئاً ولا مثقال ذرة.
ومن كان يريد حرث الدنيا أعطاه الله من عرض الدنيا رزقه المكتوب له، لا يحرم منه شيئاً، لكن ليس له في الآخرة نصيب، فهو لم يعمل في حرث الآخرة شيئاً ينتظر عليه ذلك النصيب.
وما أحمق الذين يريدون حرث الدنيا فقط، فالله بفضله يمد هؤلاء وهؤلاء، ولكل إنسان نصيبه من حرث الدنيا وفق المقدور له في علم الله، ثم يبقى حرث الآخرة خالصاً لمن أراده وعمل فيه.
وأرزاق العباد كلها في السماء، ومكان الاستلام في الأرض كما قال سبحانه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢)} [الذاريات: ٢٢].