وإذا كان الرب قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدمه، يسعون في مصالحه في يقظته ومنامه، وحياته وموته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض.
ثم إن العبد لجهله أبق عن سيده ومالكه، معرضاً عن رضاه.
ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه، وصالح عدوه الشيطان، ووالاه من دونه، وصار من جنده، مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه وخالقه ومالكه، فقد باع نفسه التي اشتراها منه إلهه ومالكه، وجعل ثمنها جنته والنظر إلى وجهه، على عدوه الشيطان، أبغض خلقه إليه، واستبدل غضب ربه برضاه، ولعنته برحمته ومحبته.
فأي مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟
وإذا أراد الله عزَّ وجلَّ خذلان من عصاه استدرجه، والاستدراج معناه أن يعامل الله العصاة والمجرمين باللطف والإحسان، مع تماديهم في الغي والإجرام.
وذلك بأن يزيد الله نعمه عليهم، فيظنون أنها لطف من الله تعالى بهم، فيزدادون بطراً وانهماكاً في الغي، حتى تحق عليهم كلمة العذاب كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)} [الأعراف: ١٨٢، ١٨٣].
فكلما أحدثوا ذنباً، فتح الله عليهم باباً من أبواب الخير والنعم، فيزدادون بطراً وإمعاناً في الغي والفساد، ثم يأخذهم الله تعالى أغفل ما يكونون: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)} [الأعراف: ١٨٢، ١٨٣].
فالتوفيق أن لا يكل الله العبد إلى نفسه، بل يتولاه ويعينه ويدافع عنه.
والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد ونفسه ويكله إليها.