إن الجاهلية ليست فترة من الزمان مضت فقط، إنما هي انحسار معنى الألوهية والعبادة على هذا النحو، هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك، وهم يحسبون أنهم على دين الله كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)} [البقرة: ٨٥].
فهل يليق بالمسلمين أن يؤدوا الشعائر لله، بينما أربابهم في الحياة غير الله، يشرعون لهم بما لم يأذن به الله فيطيعونهم، وتلك عبادتهم إياهم.
والله عزَّ وجلَّ هو الذي خلق هذا الكون، وله الأمر والحكم فيه، فهو الذي يحكم العباد بسلطانه وشريعته، وهو الذي يدينون له وحده، ويخضعون لأمره ونهيه، ويتبعون ما شرعه لهم في جميع أحوالهم، فلا يجوز لهم أن يشركوا معه أحداً سواه.
إن على المصلحين والدعاة إلى الله أن يعملوا لإعادة هذا الدين في حياة الأمة إلى الوجود الفعلي في مختلف شعب الحياة، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة الله في أغلب بقاع الأرض، وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام، وإن بقيت المآذن والمساجد، والأدعية والشعائر' تخدر مشاعر الباقين على الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين، وتوهمهم أنه لا يزال بخير، وهو يمحى من الوجود محواً، وتطرد شرائعه وأحكامه من واقع الحياة طرداً، وتهدم أركانه وواجباته وسننه كل حين.
إن مجتمع التوحيد والإيمان قد وجد في مكة، قبل أن توجد الشعائر، وقبل أن توجد المساجد، وجد من يوم قيل للناس:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف: ٨٥].
فعبدوه، ولم تكن عبادتهم حينئذ ممثلة في الشعائر، فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت، إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة لله وحده في كل شيء قبل نزول الشرائع.