فاقتضت حكمته أن أدخله الجنة، ليعرف النعيم الذي أعد له عياناً، فيكون إليه أشوق، وعليه أحرص، وله أشد طلباً.
واقتضت حكمته أن أراها أباهم آدم، وأسكنه إياها، ثم قص على بنيه قصته، فصاروا كأنهم مشاهدون لها، حاضرون مع أبيهم، فاستجاب من خلق لها وخلقت له، وسارع إليها، فلم يثنه عنها حب العاجلة، بل يعد نفسه كأنه فيها، ثم سباه العدو، فهو دائم الحنين حتى يعود إليها.
فكان إسكان آدم وذريته هذه الدار التي ينالون فيها الأسباب الموصلة إلى أعلى المقامات من إتمام إنعامه عليهم.
والله عزَّ وجلَّ جعل النبوة والرسالة، والخلة والتكليم، والولاية والعبودية من أشرف مقامات خلقه، ونهايات كمالهم، فأنزلهم داراً أخرج منهم فيها الأنبياء، وبعث فيها الرسل، واتخذ من اتخذ منهم خليلاً، وكلم موسى تكليماً، واتخذ منهم أولياء وشهداء وعبيداً، وخاصة يحبهم ويحبونه، وكان إنزالهم إلى الأرض من تمام الإنعام عليهم، والإحسان إليهم.
ومن تأمل آيات الله المشهودة والمسموعة ورأى آثارها علم تمام حكمته في إسكان آدم وذريته في هذه الدار إلى أجل معلوم.
فالله عزَّ وجلَّ إنما خلق الجنة لآدم وذريته، وجعل الملائكة فيها خدماً لهم، ولكن اقتضت حكمته أن خلق لهم داراً يتزودون منها إلى الدار التي خلقت لهم، وأنهم لا ينالونها إلا بالزاد كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)} [السجدة: ١٨ - ٢٠].