والكفار في أنحاء الأرض لا يدركون وظيفة هذا الكتاب، لا يدركون أنه جاء لإنشاء مجتمع عالمي إنساني، وبناء أمة تقود هذا المجتمع العالمي، وأنه الرسالة الخيرة للبشرية من ربها.
وأن الله الذي خلق البشر عليم بما يصلح لهم من المبادئ والشرائع، وإذا كان أكثر المسلمين لا يدركون وظيفة هذا الكتاب، ولا يدركون وظيفتهم في دينهم فكيف تكون حالهم وحال غيرهم؟.
إن مثل آيات هذا الكتاب العظيم كمثل الدواء يعطى منه للمريض جرعات حتى يشفى، ثم ينصح بأطعمة أخرى تصلح للبنية العادية في الظروف العادية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)} [البقرة: ١٠٦].
والمشركون لا يدركون ذلك، ولذلك يتهمون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالكذب والافتراء، وهو الصادق الأمين الذي لم يعهدوا عليه كذباً قط: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)} [النحل: ١٠١، ١٠٢].
فإذا بدل سبحانه آية انتهى أجلها وتحقق مرادها، وأتى بآية أخرى أصلح للحالة الجديدة التي صارت إليها الأمة، فهو العليم الخبير، والشأن له في ملكه وخلقه وأمره: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)} [الأعراف: ٥٤].
وقد كان كفار مكة يستمعون إلى القرآن، ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له، ويمانعون فطرتهم أن تتأثر به، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجاباً مخفياً لا يظهر للعيون، ولكن تحسه القلوب، فإذا هم لا ينتفعون به، ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (٤٥)} [الإسراء: ٤٥].
ولقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت، وما