وكلما تمكن العبد من منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه.
ولهذا كان الواجب على الأنبياء والرسل أعظم من الواجب على أممهم، والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على العلماء أعظم من الواجب على من دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته وقدرته تكون مسئوليته وعبوديته.
وكمال العبودية والمحبة والطاعة إنما يظهر عند المعارضة، والدواعي إلى الشهوات والإرادات المخالفة للعبودية.
وكذلك الإيمان إنما تتبين حقيقته عند المعارضة والامتحان، وحينئذ يتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، كما قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤)} [العنكبوت: ٢ - ٤].
فالجنة غالية الثمن، لا ينالها المؤمنون إلا بالجهاد والصبر، فَخَلْق الشياطين وأوليائهم وجندهم من أعظم النعم في حق المؤمنين.
فإنهم بسبب وجودهم صاروا مجاهدين في سبيل الله، يحبون في الله، ويبغضون لله، ويوالون في الله، ويعادون في الله، ويعطون لله، ويمنعون لله.
ولا تكمل نفس العبد ولا يصلح لها الزكاء والفلاح إلا بذلك.
ولما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدة النفس والشيطان وبني جنسه، وكان العامل إذا علم أن ثمرة عمله وتعبه يعود عليه وحده لا يشركه فيه غيره كان أتم اجتهاداً وأوفر سعياً كما قال سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ