الأولى: أن يكون حاله مع ربه وثقته بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل عادة.
الثانية: وهي أقوى، أن يكون حاله مع ربه كحال الطفل مع أمه، فهو لا يعرف غيرها، ولا يفزع لأحد سواها، فإذا رآها تعلق في كل حال بذيلها، وطلب منها كل ما يريد.
الثالثة: وهي أعلاها، أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته كالميت بين يدي الغاسل، يرى تدبيره وتصريفه بيد مالكه الذي يدبر الكون، فهو مثل صبي علم أنه إن لم يزعق بأمه، فالأم تطلبه ولا تتركه.
وهذا المقام في التوكل سببه المعرفة والثقة بكرم الله وعنايته، وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يُسأل، ويقتضي الشكر له، وسؤاله وعدم سؤال غيره.
ووجود العبد الرزق من غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦)} [هود: ٦].
وقوة التوكل مبنية على كمال التوحيد، فمن كان توحيده أكمل كان توكله على الله أعظم.
فإذا آمن العبد بالله رأى كل شيء صادراً عن الواحد، ومتى علم أنه لا فاعل سوى الله لم ينظر إلى غيره، بل يكون الخوف منه، والرجاء له، وبه الثقة، وعليه التوكل وحده؛ لأنه في الحقيقة هو الفاعل وحده، والكل مسخرون له.
فلا يعتمد على المطر أو الماء في خروج الزرع .. ولا يعتمد على الريح في سير السفينة .. ولا على العين في الرؤية .. ولا على الأذن في سماع الأصوات .. ولا على الطعام في الشبع .. ولا على الدواء في الشفاء. ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه .. شكر الكاتب دون القلم.
وكل المخلوقات في قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم في يد الكاتب.