وقد جمع الله عزَّ وجلَّ له بين أعلى أنواع الغنى، وأشرف أنواع الفقر، وأكمل له بذلك مراتب الكمال، فكان في فقره أصبر خلق الله، وأشكرهم له، وكذلك في غناه.
وقد جعله الله قدوة للأغنياء والفقراء، وأي غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها، وعرض عليه أن يجعل له جبل الصفا ذهباً فلم يقبله، وخير بين أن يكون ملكاً نبياً، وبين أن يكون عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبياً.
ومع هذا جبيت إليه أموال جزيرة العرب وغنائم حنين، فأنفقها كلها، ولم يستأثر منها بشيء، بل تحمل عيال المسلمين وديونهم فقال:«مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلاًّ فَإِلَيْنَا» متفق عليه (١).
فرفع الله سبحانه قدر نبيه أن يكون من جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقة، كما نزهه أن يكون من جملة الأغنياء الذين أغناهم بالأموال المكتسبة والموروثة، بل أغناه به عما سواه، وأغنى قلبه كل الغنى، ووسع عليه غاية السعة.
فأنفق - صلى الله عليه وسلم - غاية الإنفاق، وأعطى أجل العطايا، ولا استأثر بالمال، ولا اتخذ منه عقاراً ولا أرضاً، ولا ترك شاة، ولا بعيراً، ولا عبداً، ولا ديناراً ولا درهماً.
فصلوات الله وسلامه عليه، فقد أكمل مرتبتي الغنى والفقر، وأوفاهما حقهما وعبوديتهما، وقد أغنى الله به الفقراء، وأعز به الأذلاء. فما نالت أمته الغنى والعز إلا بسببه، وأغنى الناس من صار غيره به غنياً: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)} [التوبة: ١٢٨].
وأعظم ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ربه كتاب الله عزَّ وجلَّ، الذي هو هدى للناس، وموعظة للقلوب، وشفاء لما في الصدور ورحمة للعالمين كما قال
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٢٣٩٨) واللفظ له، ومسلم برقم (١٦١٩).