العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه.
الدرجة الثالثة: صحة الاضطرار، وهذه الدرجة فوق الدرجتين قبلها، فإن الفقر الأول فقر عن الأعراض الدنيوية، والثاني فقر عن رؤية المقامات والأحوال، والثالث فقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة الوجود، فيبقى الوجود كله في قبضة الحق عزَّ وجلَّ كالهباء المنثور في الهواء يتقلب بتقليبه إياه.
فالفقر الأعلى أن يشهد العبد اضطراره إلى الحي القيوم، ويشهد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقراً تاماً إليه من جهة كونه رباً له، ومن جهة كونه إلهاً معبوداً لا غنى له عنه، كما لا وجود له بغيره.
فهذا هو الغني بلا مال، القوي بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفي بلا عتاد.
قد قرت عينه بالله فقرت به كل عين، واستغنى بالله فافتقر إليه الأغنياء والملوك.
وهذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين إن حركه ربه بطاعة أو نعمة شكرها، وقال هذا من فضل ربي ومنه، فله الحمد.
وإن تحرك بمبادئ معصيته صرخ واستغاث بربه قائلاً: أعوذ بك منك، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
فإن تم تحريكه بمعصية التجأ إلى ربه التجاء أسير قد أسره عدوه وهو يعلم أنه لا خلاص له ولا يفكه من أسره إلا سيده، أما هو فلا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فهو في أسر العدو ناظر إلى سيده متى يفكه منه؟.
فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو سبحانه الذي يدفع ما منه بما منه، فالخلق كله له، والأمر كله له، والحكم كله له، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ولا يهدي لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ