وليس من الزهد بذل المال على سبيل السخاء واستمالة القلوب، وعلى سبيل الطمع، فذلك كله من محاسن العادات، ولا مدخل لشيء منه في العبادات.
وإنما الزهد أن تترك الدنيا لأجل الله، لعلمك بحقارة الدنيا ونفاسة الآخرة.
وقد يبذل الإنسان المال طمعاً في الذكر والثناء والشهرة بالسخاء، أو استثقالاً له لما في حفظه من المشقة.
والحاجة إلى التذلل للغير ليس من الزهد أصلاً، بل هو استعجال حظ آخر للنفس.
بل الزاهد حقاً من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه، ولا فوات حظ للنفس، فتركها خوفاً من أن يأنس بها، فيكون آنساً بغير الله، ومحباً لما سوى الله، أو تركها طمعاً في ثواب الآخرة، فترك التمتع في أطعمة وأشربة الدنيا طمعاً في أطعمة وأشربة الآخرة.
فآثر جميع ما وعده الله به في الجنة على ما تيسر له في الدنيا عفواً صفواً، لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى كما قال سبحانه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١)} [طه: ١٣١].
ويقتصر الزاهد في الدنيا على المهمات فيأخذ منها بقدر الحاجة وهي:
فأما المطعم فلا بدَّ للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه، ويستعين به على طاعة ربه، ويأكل في اليوم والليلة في النوع والمقدار والحال كما كان يأكل إمام الزهاد - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الملبس فيلبس ما يدفع الحر والبرد، ويستر العورة، ويلبس في النوع والمقدار كلبسه - صلى الله عليه وسلم -.
وأما المسكن فيسكن بيتاً على قدر حاجته من غير زيادة، ولا زينة، ولا إسراف، وأما أثاث البيت فيكون بقدر حاجته، ولا يأنف من الدون من الأثاث.