وقالوا للناس خلوا لنا الدنيا، ونحن قد خلينا لكم الآخرة.
فالإيمان بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وشهود القلب لذلك هو مبدأ الطريق ووسطه وغايته، وهو روح السالكين، والحادي بهم إلى الوصول، ومحرك عزماتهم إذا فتروا، ومثير هممهم إذا قصروا، فإن سيرهم إنما هو على الشواهد.
فمن لا شاهد له فلا سير له ولا طلب، وأعظم الشواهد صفات محبوبهم ونهاية مطلوبهم، وذلك هو العلم الذي رفع لهم في السير فشمروا إليه.
ولا يزال العبد في التواني والفتور والكسل حتى يرفع الله عزَّ وجلَّ له بفضله ومنِّه علماً يشاهده بقلبه فيشمر إليه، ويعمل عليه.
فسبحان من حال بين أعدائه وبين محبته ومعرفته، والسرور والفرح به، ورؤيته، والتمتع بخطابه في محل كرامته، ودار ثوا به، فلو رآها أهلاً لذلك لمنَّ عليها به، وأكرمها به، والله أعلم حيث يجعل كرامته، ويضع نعمته.
وقد شاء الله عزَّ وجلَّ برحمته وحكمته أن لا يأخذ الناس بعهد الفطرة، وهي معرفة ربهم، وأن لا يأخذهم بالآيات الكونية التي تدل على عظمة الله واستحقاقه الحمد، بل مع ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ إقامة للحجة، وإبلاغاً لدين الله سبحانه.
وأرسل الله الرسل لكل قوم، وفي كل أرض، فحيثما وجد الناس كانت رحمة الله معهم، وكان رسول الله بينهم: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (٢٤)} [فاطر: ٢٤].
ثم بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)} [الأنبياء: ١٠٧].
فعموم العالمين حصل لهم النفع برسالته:
أما أتباعه فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة.
وأما أعداؤه المحاربون له فالدين عجل قتلهم، وموتهم خير لهم من حياتهم،