آخر يراد من وراء هذه الدعوة، شيء ينبغي أن يدعه الناس لأربابه، ولمن يحسنون فهم المخبآت، فليطمئن الناس؛ لأن الكبراء ساهرون على مصالحهم: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦)} [ص: ٦].
ثم يموهون على الناس بأنهم يعرفون الدين، وأنهم أحرص على مصالحهم، وأن ما جاء به هؤلاء ليس التوحيد الذي يعرفه الناس من قديم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧)} [ص: ٧].
هكذا قالت قريش، فعقيدة التثليث قد شاعت عند النصارى، وأسطورة العزير قد شاعت عند اليهود، وهما منحرفتان عن التوحيد الخالص: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)} [التوبة: ٣٠].
فكفار قريش كانوا يقولون ما سمعنا بهذا التوحيد المطلق لله عند أهل الكتاب.
والله عزَّ وجلَّ بعث الأنبياء وأرسل الرسل بأمرين:
بالدعوة والعبادة .. بالهداية والاستقامة.
وكلهم سار في هذا الطريق، وكلهم عانى، وكلهم ابتلي، وكلهم صبر.
وكان الصبر هو زادهم جميعاً، وطابعهم جميعاً، كل حسب درجته في سلم الأنبياء والمرسلين.
لقد كانت حياتهم صلوات الله وسلامه عليهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات، مفعمة بالآلام، وحتى السراء كانت ابتلاء، وكانت محكاً للصبر على النعماء، بعد الصبر على الضراء، وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال.
وقد اختار الله لهم هذه الحياة وإنها لكذلك، فحياتهم صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية، لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات؟، وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض؟، وكيف تتجرد من الشهوات والمغريات من أجل الله؟، وكيف تخلص لله، وتنجح في امتحانه،