للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما من لا يتجه إلى الهدى ولا يطلبه فإن الله لا يهديه، ومن عطل أجهزته الفطرية ابتداءً جعل الله بينهم وبين الهدى حجاباً، فكل شيء بأمر الله، ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد، ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقراً أن يسمعوه.

والهداية بيد الله عزَّ وجلَّ، ولكنها تجيء في موعدها، لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب, ولا أن المجرمين الضالين يؤذون الطيبين.

ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته وشهواته، إنما يرغب في هداية قومه حباً في هدايتهم، ويئس على ما هم فيه من ضلال وشقوة، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والآخرة، لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله.

فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه، فلنزول المطر أسباب وأوقات، ولنزول الهداية أسباب وأوقات، ولا يعلم ذلك إلا الله وحده، ولا مبدل لكلماته: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٥)} [الأنعام: ٣٥].

فهدى الناس لا يتوقف على أن تأتيهم بآية، فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول، فلو شاء الله لجمعهم على الهدى: إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى كالملائكة، وإما بتوجيه قلوبهم، وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه، وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم، أو بغير ذلك، وكلها يقدر الله عليها.

ولكنه سبحانه لحكمته خلق الإنسان لوظيفة معينة، وأعطاه استعدادات مختلفة يستقبل بها دلائل الهدى، وموجبات الإيمان.

ولذلك لم يجمع الله الناس على الهدى بأمر تكويني من عنده، ولكنه أمرهم بالهدى، وترك لهم اختيار الإيمان والطاعات، أو الكفر والمعاصي، وتلقي

<<  <  ج: ص:  >  >>