والصبر هنا لا يتوقف على الإيمان، بل يصبر عليه البر والفاجر، لا سيما إذا علم أنه لا معول له إلا الصبر، فإن لم يصبر اختياراً صبر اضطراراً.
ولهذا كان بين ابتلاء نبي الله يوسف الصديق - صلى الله عليه وسلم - بما فعل به إخوته من الأذى والإلقاء في الجب، وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبين أبيه، وبين ابتلائه بمراودة المرأة له وهو شاب عزب غريب بمنزلة العبد لها وهي الداعية إلى ذلك فرق عظيم، لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاء.
فإن يوسف كان شاباً جميلاً، عزباً غريباً، وكانت المرأة جميلة، وذات منصب، وكان في دارها، وتحت حكمها، وأغلقت الأبواب، وهي الطالبة، وكانت شديدة العشق والمحبة للرجل، قد امتلأ قلبها من حبه.
فهذا الابتلاء الذي صبر معه يوسف، ولا ريب أن هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأول، بل هو من جنس ابتلاء الخليل إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بذبح ولده إسماعيل، إذ كلاهما ابتلاء بمخالفة الطبع، ودواعي النفس والشهوة، ومفارقة حكم طبعه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦)} [الصافات: ١٠٦].
وهذا بخلاف البلوى التي أصابت يونس في البحر، والمرض الذي أصاب أيوب، فمن له داعية وشهوة وهو يحبسها لله، ولا يطيعهما حباً له، وحياء منه، وخوفاً منه، وتوقيراً له، فهوأفضل ممن لا داعية له ولا شهوة.
ولذا كان صالحو البشر أفضل من الملائكة، وعبادتهم أكمل، وانقيادهم أتم، ودرجاتهم أعلى.