أما الهجرة بالأبدان، فهي الهجرة في سبيل الله من بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، ومن قوم إلى قوم، حين يشتد عليه الأذى، ويحيط به الظلم، ولا يتمكن من إظهار دينه، فيهاجر إلى بلد يأمن فيه على نفسه، ويتمكن من إظهار دينه، والعمل بشرعه.
فالهجرة في سبيل الله ليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة لتكميل اللذات والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الدنيا الفانية.
ومن يهاجر هذه الهجرة في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً لأعداء الله، حيث يتمكن من إقامة دين الله، وجهاد أعداء الله ومراغمتهم.
كما يجد سعة وفسحة، فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة للنجاة والرزق والحياة.
ولكن ضعف النفس وحرصها وشحها يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلاً.
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق، وأسباب الحياة، وأسباب النجاة، هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين، ثم تتعرض لذلك المصير البائس، مصير الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (٩٩)} [النساء: ٩٧ - ٩٩].
فالهجرة عند حصول الأذى والظلم من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر؛ لما في تركها من تكثير سواد الكفار، وفتنة المؤمنين وظلمهم،
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٥٤)، ومسلم برقم (١٩٠٧)، واللفظ له.