فذلك التقدير وتلك الأسباب وغاياتها صادرة عن محض الحكمة البالغة التي يحمده عليها أهل السموات والأرض، وأهل الدنيا والآخرة، فما خلق الله ذلك باطلاً، ولا دبره عبثاً كما قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)} [البقرة: ٣٠].
ثم أظهر الله عزَّ وجلَّ من علمه وحكمته ما خفي على الملائكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعلمونه:
فجعل سبحانه من نسل هذا الخليفة من رسله وأنبيائه وأوليائه وأحبائه من يتقرب إليه بأنواع التقرب، ويبذل نفسه في محبته ومرضاته، ويسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، ويذكره قائماً وقاعداً وعلى جنبه، ويعبده ويذكره ويشكره في السراء والضراء، والعافية والبلاء، والشدة والرخاء.
يعبده سبحانه مع معارضة الشهوة، وغلبات الهوى، ومعاداة بني جنسه وغيرهم له، فلا يصده ذلك عن عبادته وشكره والتقرب إليه، والجهاد في سبيله.
فعبادة الملائكة بلا معارض ولا ممانع، وعبادة البشر مع المعارض والممانع.
وأراد الله سبحانه كذلك أن يظهر للملائكة ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر وهو إبليس.
فذلك الخير وذلك الشر كامن في النفوس لا يعلمونهما، فلا بد من إخراج ذلك وإبرازه، لكي تُعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به.
والله عزَّ وجلَّ لما خلق خلقه أطواراً وأصنافاً، وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وذريته على كثير ممن خلق تفضيلاً، جعل عبوديتهم أفضل وأكمل من عبودية غيرهم، فكانت العبودية أفضل أحوالهم.
ولما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله، وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا تحصل إلا بها، كان من أعظم الحكمة أن أُخرجوا إلى دار