فهي كالنهر المنحدر الذي إن ترك أغرق الأرض والعمران، فسكره وحبسه لا يجدي؛ لأنه سيمتلئ فيكون إفساده وتخريبه أعظم.
وقطعه من أصل الينبوع متعذر؛ لأنه كلما سدّ من موضع نبع من موضع آخر فلم يزل خطره.
لكن الأجدى والأنفع صرفه عن مجراه المنتهي إلى العمران إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه، ولا يتضررون به، فصرفه إلى أرض قابلة للنبات وسقيها به أجدى وأنفع وأسلم.
إذا تبين هذا فالله العليم الحكيم اقتضت حكمته أن ركب الإنسان والحيوان على طبيعة محمولة على قوتين:
قوة غضبية .. وقوة شهوانية.
وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها، وهما مركوزتان في جبلة كل حيوان برحمة العزيز العليم.
فبقوة الشهوة يجذب الإنسان المنافع إلى نفسه، وبقوة الغضب يدفع المضار عن نفسه.
فإذا استعمل الإنسان الشهوة في طلب ما يحتاج تولد منها الحرص، وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه تولد منه القوة والغيرة.
فإذا عجز عن ذلك الضار أورثه قوة الحقد، وإن عجز عن وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبداً به أورثه الحسد.
فإن ظفر بما يحب ويحتاج أورثته شدة شهوته خلق البخل والشح، وإن اشتد حرصه على الشيء، واشتدت شهوته له، ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها فيه، أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم، ومنه يتولد الكبر والفخر والخيلاء.
فالنهر مثال هاتين القوتين: الغضبية والشهوانية، وهو منصب في جدول الطبيعة ومجراها إلى دور القلب وعمرانه، يخربها ويتلفها ولا بدَّ.