وقد وصف الله عزَّ وجلَّ الأنصار بالإيثار، وأخبرهم أنهم سيلقون بعده أثرة فليصبروا كما قال - صلى الله عليه وسلم - للأنصار:«إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، وَمَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ» متفق عليه (١).
وقد وقع ما قال - صلى الله عليه وسلم - من استئثار الناس على الأنصار في الدنيا، وهم أهل الإيثار، ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس.
فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته، ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة.
فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك مع كونك من أهل الإيثار، فاعلم أنه لخير يراد بك.
والإيثار على ثلاث درجات:
الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك ديناً، ولا يقطع عليك طريقاً، ولا يفسد عليك وقتاً، كأن تطعمهم وتجوع، وتسقيهم وتظمأ، وتريحهم وتتعب، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب ما لا يجوز في الدين، ولا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك لربك، ومثل أن يؤثر بوقته غير ربه.
فكل سبب يعود على الإنسان بصلاح قلبه ووقته وحاله مع الله فلا يؤثر به أحداً من الناس، فإن آثر به فإنما يؤثر الشيطان على الله، وهو لا يعلم.
الثانية: إيثار رضا الله على رضا غيره، ولو غضب الخلق كلهم، وهي درجة الأنبياء والمرسلين، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا - صلى الله عليه وسلم - فإنه قاوم العالم كله، وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة القريب والبعيد في الله.
وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضا ربه لومة
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣٧٩٣)، واللفظ له، ومسلم برقم (١٨٤٥).