فالله تبارك وتعالى كامل الذات والأسماء والصفات، محسن لذاته، رحيم لذاته، جواد لذاته، كريم لذاته، كما أنه غني لذاته، قادر لذاته، حي لذاته.
فإحسانه وجوده، وبره ورحمته من لوازم ذاته، لا يكون إلا كذلك، كما أن قدرته وغناه، وعلمه وحلمه من لوازم ذاته، لا يكون إلا كذلك.
وأما العباد فلا يتصور أن يحسنوا إلا لمصالحهم:
فإنهم إذا أحبوا أحداً طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله أو شجاعته أو رياسته أو كرمه.
وإن جلبوا له منفعة أو دفعوا عنه مضرة فهم يطلبون العوض، إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وأجراء المستأجر، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم.
فكل واحد من الخلق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك في ذلك ضرر إذا لم يراع المحب العدل، فإن دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه.
وأما الرب سبحانه فهو يريدك لك ولمنفعتك، لا لينتفع بك، فهي منفعة محضة لك لا ضرر فيها: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٦)} [العنكبوت: ٦].
فليتدبر العاقل ذلك حق التدبر، فملاحظته تمنعه أن يرجو المخلوق، أو يطلب منه منفعة له، فإنه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأول، بل إنما يريد انتفاعه بك عاجلاً أو آجلاً، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك، لا نفعك بنفسه.
وتأمل ذلك وتدبره فيه منفعة عظيمة وراحة، ويأس من المخلوقين، سداً لباب عبوديتهم، وفتحاً لباب عبودية الله وحده.
لكن لا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، وعدم احتمال أذاهم، بل أحسن إليهم لا لرجائهم، فكما لا تخافهم لا ترجوهم.
فأغلب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضرراً عليك، فإن