للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكثرون من صيام التطوع، فداود - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهو أحب الصيام إلى الله، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم.

ولقد كان من رحمة الله أن فرض الصوم على هذه الأمة التي فرض عليها الجهاد في سبيل الله لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة على البشرية، وللشهادة على الناس، وجعله ركناً عظيماً من أركان الإسلام الخمسة.

فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد، كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها؛ إيثاراً لما عند الله من الرضا والرضوان والجنان.

فما أعظم صبر المسلم على الصيام، وإمساكه عن الطعام والشراب، والرغائب والشهوات تتناثر من حوله، وألوان المغريات تهتف به، إن ذلك تربية للمسلم على تقديم أوامر الله على محبوبات النفس، وإعداد له للثبات أمام الأعداء في الخارج كما ثبت وقمع نفسه عن شهواتها في الداخل.

والصائم لصفاء روحه وقلبه أكثر الناس ذكراً، وأحسنهم توجهاً إلى ربه، وأقرب الدعاة استجابة، ولذلك جاء ذكر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصيام في القرآن كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)} [البقرة: ١٨٦].

وصلاح القلب واستقامته بإقباله بالكلية على ربه وأنسه به، ولما كان فضول الطعام والشراب، والكلام والمنام، وفضول مخالطة الأنام مما يقطعه عن ربه، ويزيده شعثاً، ويشتته في كل واد، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات التي تعوقه عن سيره إلى الله تعالى.

وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده عكوف القلب على الله، وجمعيته عليه والخلوة به، والانقطاع عن غيره.

<<  <  ج: ص:  >  >>