للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأقوال والأعمال، كما قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥)} [البقرة: ٢٥].

وخلق سبحانه داراً أخرى لطالبي أسباب سخطه، العاملين بمعصيته، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، المخالفين لأوامره، القائمين بما يكره من الأقوال والأعمال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله، وهي جهنم دار العذاب.

وأودعها كل شيء مكروه، وسجنها مليء بكل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشر كله بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات، والأقوال والأعمال.

فهاتان الداران هما دار القرار.

وخلق سبحانه داراً ثالثة، هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا دار العمل.

ثم أخرج سبحانه إليها من أثمار تلك الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما، وما يستدل به عليهما، حتى كأنهما رأي عين، ليصير للإيمان بالغيب وجه شهادة تستأنس به النفوس، وتستدل به.

فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات، والملابس الفاخرة، والصور الجميلة، وسائر ملاذ النفس ومشتهياتها، ما هو نفحة من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال والدوام.

فإذا رآه المؤمنون في الدنيا، ذكرهم بما هناك من الخير والسرور، والعيش الرضي في الآخرة، فشمروا إليه وقالوا: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.

وأحدثت لهم رؤيته عزمات وهمماً، وجداً وتشميراً؛ لأن النعيم يذكر بالنعيم، والشيء يذكر بجنسه.

فوجود تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها، وزاد لهم من هذه الدار إليها، فهي زاد وعبرة ودليل، وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار.

فالمؤمن يهتز برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى دار النعيم والخلود، فالنفس ذواقة تواقة، إذا ذاقت شيئاً منها تاقت إلى ما هو أكمل منه، حتى تتوق وتصل إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم.

وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضاً من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفَسَين الشتاء والصيف، اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا،

<<  <  ج: ص:  >  >>